منتدى الأقصى للابداع و التميز
اهلا وسهلا بك زائرنا الكريم

نسعد بتسجيلك معنا


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدى الأقصى للابداع و التميز
اهلا وسهلا بك زائرنا الكريم

نسعد بتسجيلك معنا
منتدى الأقصى للابداع و التميز
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

بين الغربة والعودة

اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الأحد فبراير 10, 2019 1:32 pm

بين الغربة والعودة ......في ظلال الغربة

خرجت مع أبيها بنت العشرين ، ترتدي ملابسها السوداء ، تكاد لا تفارق عينها الدمعة ، تسير بعض الخطى و تلتفت للخلف ، وقدماها تتشابكان وتتعانقان ، كراقصة باليه ، يتكئ والدها على عصاه الخشبية ، عابس الجبين يغلفه شعر مبعثر يغطي الرأس ، يلهث من تعب السفر والترحال .
وصل الاثنان شجرة شامخة على حافة بستان ، عند بداية قرية تتدلى منها القطوف ، وارفة الظلال ، تسر الإنظار ، راسخة على ضفاف جدول ماء . جلسا برهة يتناولا بعض ما لديهم من خبز و زعتر و يشربا كأسا من لبن ، و بدأ العجوز بإشعال فتيل غليونه ، ليهدأ له بال .

وتابعا المسير على الأقدام باتجاه القرية ، على استحياء ، تحجبهما عن السماء ظلال الأشجار ، وبريق الأزهار ، يطربهما زقزقات هنا وهناك فمعزوفات باهرة لم تنقطع إلى أن وصلا أبواب القرية التي فتحت لاستقبالهما .

أيام وليال بضيافة شيخ البلدة ، قضى من السنين الكثير ، يغلف رأسه وقار الشيب ، له من الأحفاد الكثير ، طويل القامة أزرق العينين ثخين الشارب ، له من الوقار كمصارع الثئران .
تمر الأيام والشيخ يقدم الضيافة للفتاة ووالدها ، و من يوم لآخر بدأت عيناه يلمعان كالبرق يخطف ناظرها
و أخذت نظراته تلاحق طيفها ، كذئب يلاحق الفريسة .

بدأت الأشجان تعشش في الذاكرة ، عادت الذكريات لبلدة هجرتها ، تذكرت البلدة التي شردت منها لظلم مارسه أهلها ، و أصبحت تطاردها النظرات .
كأنه القدر إذا ارتسم على الجبين لا يفارق العين ،
مقارنات ومفارقات
بين سيء و أسوأ
هل تعود ؟
أم تموت في الغربة ؟

بين الغربة و العودة 2

جمعت قواها التي أعياها الترحال و ذل الإقامة بعيدا عن تربة القرية
فتاة تربت في أرضها على الطيب و الأخلاق ، و مقاومة الفتن . حملت المتاع و استعدت مع والدها تتحين الفرص للعودة أدراج بلدتها التي خرجت منها .
و الشيخ لديه من السلطان ما قد يمنعهما من حرية السفر و العودة فهي صيد ثمين تمناه لنفسه .
تواعدت مع والدها أن يصحو كل منهما في أواسط الليل و الناس نيام ، ليتمكنان من الخروج بسلام . لحظة الحسم اقتربت و حانت نقطة الصفر .
استيقظت مع والدها في ليلة بدر يضيء الأرجاء و من حوله زمرا من النجوم . خرجا متخفيين و بخفة البرق تمكنا من مغادرة أفناء القصر الذي تواجدا فيه .
راودتهم بعض التساؤلات هل يعودان نفس الطريق أم يغيران المسالك
لئلا يلحق بهما الشيخ و رجاله و يعيدانهما عنوة ووالدها لا يقوى على المقاومة .
اتفقا أن يسلكا مسلكا بعيدا عن الطريق المعتاد حتى يضلللان من يحاول اللحاق بهما . تم اختيار المسلك المناسب حسب التوقعات ، و سارت بهم الطريق بين الأشجار و الحقول ، تنقلا بين مناطق مختلفة منها السهل و منها الصعب ، إلى أن وصلا إلى منطقة جبلية صعبة على أن يتجاوزاها بحالتهما المتعبة ، حيث الصخور و الأشواك تظللها ، و التعب تبدو علاماته عليهما ، قررا الاستراحة ليتدبران الأمر و يستعدان للنهوض من جديد ، خاصة و أنهما ابتعدا عن مكامن خطر الشيخ و عصبته نوعا ما .
شربا الماء و تناولا بعض الطعام الذي كان بحوزتهما وارتاح جسداهما بعد عناء السفر . قررا أن يستأنفان المسير و يصعدان الجبل و يخوضان معركة مع صعوباته مرة يصعدان صخرة و مرة تنزلق أقدامهم ومرة تعلق الأشواك بهما ، لقد أنهك كلاهما من العناء والمشقة ، و لكن الإصرار جعلهما يتجاوزان الجبل الرابض أمامهما .
بدأ الوالد العجوز يلهث و يعاني شدة التعب و طلب منها الاستراحة و التريث عساه يمر من يقدم لهما المساعدة و يزودهما برمق من الماء و كمية من الطعام . جلسا بظل صخرة كبيرة تخفيهما عن المارة أو من يمكنه ملاحقتهما .
ظهر رجل يبدو عليه الوسامة و الجمال له لحية سوداء و يبدو بصحة و قوة . له عيون بنية و أكتاف عريضة ، طويل القامة . يتبعه ثلاثة من الصبيان و صبية في العشرين من العمر شقراء مسترسلة الشعر ، ذات عيون ثاقبة ونحالة في القامة .
توجهت الفتاة إليهم تطلب المساعدة ، ألقت التحية على الرجل و أسرته و قالت له : أنا ووالدي العجوز قطعت بنا السبل و أنهكنا السفر ....... نريد مكانا نستريح به يوما أو بعض يوم . ابتسامة عريضة ارتسمت على وجه الرجل و بقية الأفراد المرافقين له ،
بكل سرور أختنا لنا بيتا صغيرا قريبا من هنا و أشار بإتجاهه.
يمكننا استضافتكما بكل سرور .
توجه الجميع تجاه البيت الصغير المكون من غرفتين صغيرتين ، و مسك بيد العجوز المنهك من الترحال حتى وصل الجميع للبيت . أمر أخته أن تحضر لهما الطعام و الشراب وتحضر الفراش للراحة .
استراحة في الغرفة التي أعدها لهما و استرخى العجوز و أخذ يبحر في نوم عميق من شدة التعب و الفتاة من حوله تراقبة و تربت على أكتافه فهو المدلل لها والحب في الحياة .
انقضت الساعات وهما في عزلة في الغرفة و لم يطرق الباب أحد.
الرجل خرج لطلب الرزق و أخته تعمل على إعداد وجبة العشاء و تقدم الماء و العلف للحيوانات التي يربونها .
طرقت الصبية الباب و استأذنت بالدخول لتسأل إن كانا بحاجة إلى مساعدة ،
جلست بجانب الفتاة و بدأ الحديث بينهما و بدأت البسمات تعود لوجه الفتاة تدريجيا و الشعور بالراحة .

اقتربت ساعة المساء ، عاد الرجل من عمله و هو على ثقة أن أخته قامت بما يليق من إكرام للضيوف ، و حسن المعاملة .
جلس الجميع يتسامرون وتبادلوا الحكايات و أدلى كل مما لديه من أخبار . فالقدر يجمع بين الناس يؤلف بين بعضهم و يفرق بين البعض .
ألح الرجل عليهما بالبقاء في ضيافته أياما وأيام قبل عودتهما للديار . فقد أنس لهما و أنسا به .




بين الغربة و العودة 33

قضى الأب و فتاته أياما بضيافة الرجل و أسرته ، كان التعاون كبيرا في أعمال البيت و في الحقل و سقي الحيوانات
عملوا سويا كأنهم أسرة واحدة توزعت بينهم الأعمال و المهمات .
الشيخ العجوز في غرفته يستريح أحيانا و يخرج ليستلقي بين التغريدات و تحت أشعة الشمس الذهبية تارة أخرى يستمتع بالضياء تغازله و يغازلها .
تذكره بالعقد الذهبي الذي كان يطوق عنق زوجته المرحومة ، و حبات البرتقال المتوهجة في أعالي الأشجار .
يحل المساء و يجلس الجميع يتسامرون و يذكرون بعض الحكايات ،
منها من يكتنز الفرح و منها ما يحمل ذكريات الألم .
بدأوا يتعرفون على بعضهم شيئا فشيئا و الإنسجام يزداد بين الجميع ،
يذكرون قصص الهلاليين تارة و دخولهم إلى تونس الخضراء ، و قصص بطولية للزير سالم ، و قصة عشق عنتر بن شداد . كل يوم قصة تطفو كلماتها
بين من يلقيها و من يستمع لها .
و هناك في الحياة الجديد من الأشياء تولد في الأعماق .
الفتاة ترتاح لحديث الرجل و الإنسجام متبادل و النظرات تفضح ما تخفيه القلوب .
فالرجل يلبس كساء الأخلاق و المروءة ، حمل أعباء حمايتهم و سكناهم في بيته ، تلاشت المصلحة له من فعلته الطيبة ، رجل يكد نهاره لتوفير لقمة العيش لأخته و إخوانه الأطفال ، له من الوسامة جانب كبير ، البسمة لا تفارق نواجذه ، هدوؤه كالبحر عند ركود مياهه .
و الرجل العفيف لديه عزة في النفس و استحياء ، يسترق النظر أحيانا و لكن
بدون قصد ، فيعجبه منها النشاط و الحيوية فهي كالريح في نشاطها عند الهبوب ، ذهابا و إيابا تساعد في الأعمال ، لها عينان متسعتان تشع نورا و ضياء ، و تمتاز بفصاحة في البيان .
فترة المكوث تزداد يوما بعد يوم و التقارب يزداد ، يجمع بين الأسرتين الحب و الوفاء .
راود الشاب هاجس فهو في عمر مناسب لطرق باب الزواج
و أخذ يتساءل مع نفسه هل الفتاة توافق ،
هل يعرض الطلب على والدها العجوز ؟؟ ، متخوفا من أن يساء فهمه و استغلاله لحاجتهم .
ما هي ردة فعلهم على الطلب ، هل هي الموافقة أم الرفض ؟؟؟؟؟؟
هل يبقون في الجوار أم يتابعون مسيرتهم للعودة ؟؟؟؟؟؟
في يوم عاد من عمله مبكرا و جلس منفردا مع العجوز الشيخ ، و بدأ كل منهما الحديث ، و لكن الرجل الشاب أخذ يتململ بالحديث و يحاول أن يعبر عن هواجسه و مشاعره للشيخ العجوز ، لعله يجد الطريقة المناسبة لذلك .
سيدي : لقد بلغت سن الزواج ، و من حقي البحث عن فتاة مناسبة للزواج .
رد العجوز قائلا : لك الحق بنيا فالزواج شرعة الله في الأرض ،
فالجميع يبارك لك ذلك . تشجع الشاب في طرح ما يجول في خاطره
أشكرك عمي الشيخ على بهاء الرد ، سيدي : ضالتي عندك ،
أنا راغب الزواج من كريمتكم الغالية ، فكيف بي أن أجد من هي أفضل منها خلقا و تربية .
طلب فاجأ به العجوز رغم سعادته به ، بني : سعيد بعرضك ، و لكن لا تعرف عننا الكثير ، نحن في غربة عن قريتنا التي خرجنا منها ، و نحن في طريق عودتنا إليها ، لنا أهل قست علينا ، و ديار سلبت ، لقد وجدنا في ضيافتكم حسن المقام .


بين الغربة و العودة 4


الحيرة غلاف العقل ، الجميع ينتظر ، و العجوز يضع كفه على جبينه ، فالغربة حالة عصية على النفس ،
لما آلت له نفسية الفتاة التي تنقلت من مكان لآخر
و نزفت القدمان أثر الترحال ، و تحملت المشاق و سوء نظرة الناس تجاههم .
الرد مثابة قرار
زواج الفتاة يقف عائقا أمام عودته لبلدته التي يحلم بأن تطأ قدماه ترابها
فهذا الحلم لم يفارقه و لو للحظة ، فالبساتين بانتظاره و أشجار البرتقال ، و حقول القمح و الخضروات . الذكريات تعانق نسائم البحر و نوارس الشاطئ و الياسمين .
هل ينس الجمال و خبز الطابون ؟
هل ينس الذكريات مع الأهل و الجيران و جلساتهم تحت ضوء القمر ، و اللعب و سماع القصص و الحزيرات عن بني هلال و الزير سالم .
الحياة تسير و الدواليب تدور و هو ما زال بعيدا عن الحدود
و الصراع لم يتوقف في الذاكرة
لماذا يبق على الفتاة بدون زواج ؟. من حقها أن تعيش و تمارس حقها كبقية الفتيات في المعمورة
تناقضات عششت في عقله ، و هو يعتلى سدرة الأرق ،
فعيناه لم تذق طعما للنوم و الكوابيس تطارده .

الرجل المضياف لفت انتباهه التغيرات التي حدثت للعجوز بعد عرض طلبه الزواج .
بدأت بعض الهواجس تطارده ، فما الذنب الذي ارتكبه بحق العجوز و فتاته؟.
تساؤلات في الذهن تراود بعضها لماذا لم يسمع رد العجوز ، فالتحفظ
ما زال و الجميع ينتظر ، هل هناك ما يستدعي الـتأجيل في الرد؟ .

العجوز في حيرة يكاد يصيبه الجنون أو حالة مرضية مستعصية ،
تعانق العيون دمعها ، و كأن الرسالة قد و صلت للجميع .



غربة 5

فاضَ بهما الحَنين لبلد فيها نبَتت الجُذور ، و مَن استوطن ديرتهم يَرفض لهم العودة .
توطدت العلاقاتُ مع الأشقاء ،
تزوجَت الفتاة في غُربَتِها ذاك الكريمُ طيبُ الأنسابِ ,
يحملها على أكُف و من بين أصابعِة تتذوَق الشهدَ و حلاوة الأيام .
تحيطُ بها أسرَة مُتماسكة تتعاوَن و تتسامَر و يُكملَ كُل مِنها الآخر .
الحُب يُسيطِر على العَلاقة بين الجميع و الكلماتُ الطيبة . الطلبات مُستَجابة ،
تمنحُه القلب و الأشواق ، الابتسامة بحر يَسبَحُ في موجه الجميع .
يحاول أن يُنسيها ما يُشغِلُها من شجرِ البُرتقال و ظِلِِ الزيتونِ و شموخِ التينِ
و عبقِ الياسمين .
في ليلة صيف تحتَ نورِ القمرِ صعدت على سطح مَنزلها
و أخذت تتجِه أنظارُها جَنوبا و في جميعِ الإتجاهات
عسى العينُ تلتقِطُ من الصورِ المحشوةِ بالذاكرة . فالقلب لن ينسَ منها شيء ،
خاصَة الأهلَ و الجيران . كانوا يتجمعون حول البيادر لجمع القمحِ و العدسِ و ما يقتاتون به في الشتاء ، يتسامرون الليلَِ و يتعاونون في الأفراحِ و الأحزان ، فهم أسرَة تلاعَبت بها ريحُ الزمَنِ و مزقتهُم بين البَلدات المجاورَة و قُتِلَ مَن قُتِلَ و تاهَ منهم من تاهَ .
مِن أينَ أتَت العواصِف ؟
و هل هاجرت أيضا طُيورُ البيارات ؟؟؟
متى العودةُ ؟؟؟
حياتها الجديدة لم تكن سِوى مرحلة عبور الجسد في أحضان الفراش
و الروحُ تجاوزت الحُدودَ . استأذنت في ذات صباح لتقترب
من مشارفِ البلدة و اقتربت الخُطوات من حواجز و جدران أقيمت
حول حدود البلد ، وقفت متأملة عند الحدود المرتسمة ، العين تنظر للأمام
و للخلف .
كيف بها العودة فالأمر ليس باليَسير ،
رجال يتكلمون غير اللغةَ و هيئاتُهم تختلف عن هيئاتنا منها الأسود
و منها الأصفر و منها الأشقر .
تساؤلات تزداد : من أينَ أتوا و كيف تمكنوا من أسر البلدة؟ .
عادت الأدراج و الهمومُ تكلل الرأس و العينُ لا ترى سِوى السَوادَ .
هل تُخبرُ بما رَأت و تُخبر بالخيبات التي لحقت ؟
و كلها توقعات بأنهم يجهلوا ما حل بالبلدَة التي أسِرَت
و سُلِبَت المُقتدَرات .

عودة 6
قامت بترتيب ضفائرها و وضعت مِنديلها على الرأس
و كفكفت بعض دموعها التي انسابت على الوجنات .
كان هاجسَها فتح باب حجرتها التي فارقتها منذ سنوات
و أن تترك ترف الحاضر و أعباء الارتباط الذي تخوفت منه سابقا ،
فالحنين ما زال و الشوق يزداد ، حزمت ما طاب من المَتاع دون ان تلتفت خلفها فالقلب ما زال ينبض في أحشائها ، ذاك الجنين الذي سوف يفتقُ للحياة بعد شهور ليستنشق عبق النور .
النار تشدها ، ديرة هجرتها غصبا و طفلا ما زال في الرحم يريد عيشا مُيسرا بعيدا عن الويلات و التهديد .
يريد بيتا بمفتاح لا يريد مفتاحا بلا باب .
استفاق الزوج على هسيس الخطى و رعشة الأقدام و كأن هناك مُنبها يوقظه .
أيتها الغالية على القلب مالي أراكي تنتعلين و تتحضرين للمغادرة ؟
هل من جديد؟ ، ما الأمر ؟ ، هل يوجد ما يزعجك .
الجو قارص لا تستطيعين تحمل برده في هذه اللحظات ،
السماء كشاف من الغيوم و الصقيع على النوافذ و الأبواب .
تنهدات تراودها و العبرات تسترسل على الوجه
كيف بها تجيب من هو الزوج ، الأب ، الأخ ، الصديق
و الوطن الحاني لها ؟
يشدها الشوق و يعتصرها لوم الذات
فما هو الذنب الذي يقترفه جنين الأرحام ؟
من حقه أن يتنفس السعداء كبقية المواليد .
هل بإمكانها أن تعصِ أمرا لوطنها الجديد
الذي سوف يحضن جنينها بعد خروجه بعد شهور التي يمكثها في الظلام .
هل تعود للفراش و كأن شيئا لم يراودها .

بين الغربة و العودة / جزء 7

بعد طول انتظار بزغ نور فجر ، تجمع صهيل الصحراء
ليبارك بزوغ نهار جديد ، يجلجل في رحمها مخاض عسير بعد عناء استمر تسعة من الشهور .
تجمع القوى و تكتم الأنفاس و تتوالى الصرخات و تمزق الثياب و تقول أنتم السبب
لم العذاب و الألم ؟
تشد هذا و تترك ذاك من شدة المخاض .
تواجد حولها الوالد و الزوج و بعض أفراد العائلة . حضرت الداية أم أحمد التي على يديها تلد النساء في البلدة . احضروا لها الماء الدافيء و ما يلزم لتسهيل خروج الطفل .
فجأة عم البكاء الحجرة ، و بدأت الزغاريد تعانق الفضاء .
بشرى مولود ذكر!
فرح الجد و الأب و العمة و العم .
قام الجميع بتوزيع الحلوى و الرطب على أهل الحي و التبريكات من كل فج .
ماذا نسمي الطفل ؟
هل نسميه عائد ؟
العودة في الذاكرة لم تبرح الخيال .
احضروا للطفل الكوفلية و ما يلزمه من مشدات و أحزمه و الداية أم أحمد على التواصل باستمرار تتفقد صحته و سلامته و تقوم بتليين أعضائه بالماء و الزيت و الصابون ، حاله حال أبناء البلدة التي تتابعهم أم أحمد .
يوما فيوم يكبر عائد و يزداد جماله و بهاء صورته ، و الجميع متأمل الطفل الذي ينمو شيئا فشيئا ، فجأة سمع الجميع الصيحة
ماذا حصل ؟
قهقهت الأم ، ظهر سن لعائد ، قم أبا عائد و أحضر الحلوى .
مشى عائد على قدميه و الجميع من حوله كإسورة على معصم اليد ،
يمسك أبو عائد بيده و الأم تحضر له البسكويت و قطع الحلوى ،
و الجميع شغلته عائد .
يلعب بالألعاب و تارة يحمله الوالد للحديقة و يبنون سريرا
معلقا على سيقان الزيتونة في الفناء .

غربة 8

يشتد عود عائد ، يعتاد الخروج للمدرسة صباحا و يعود عند الظهيرة . يمتزج مع أولاد الحارة بعد العصرية و يلعبون و يمرحون .
يلعبون الحابة ، الغماية ، يحضرون الكرات ، يشدون الحبل و يلعبون المحجرة .
كساء الفرح يدثر جميع الأطفال .
الأم في خدرها لا تفارق عيناها عائد فهو الأمل ، تربت على أكتافه و ينتشي منها الحنان .
القلب ما زال على عهده و الأنين لم يفارق الوجدان . الدار تشتاق و البيارة تندف الدموع .
.
العجوز أنهكة تقدم العمر و الأم يتعبها مسئولية البيت و العمل لتأمين الرزق و الحاجيات .
العين في سهاد لم تفارق النجمات و تتابع مسير الأجرام ،
النجوم تأتي و تعود و نحن باقون في الغربة ، المفتاح أصبح بلا قيمة و بلا جدوى و الباب قد صدأ و البيت ربما تهدم . المسامع تعودت على الشجب ، التنديد و ليس هناك من جديد .
خرجنا أجسادا و الروح في خدرها باقية ، تئن القلوب من نشرات الأخبار المتعاقبة و يؤلمها المخاض العسير .
العودة لم تعد قرار فالبوصلة عديمة اتجاه ، الهلوسات و الأحلام
كابوس يفارق و يعود بالأثقال .
عائد يسمع من مدرس التاريخ عن أوطان سلبت و تم تغريب أهلها
الخبر حديث لم يسمع به من قبل
يسأل أمه المعذبة عن صحة الخبر
تفاجئه الأم بالنحيب و العويل
الدموع تنسكب
ما عساك تفعلين ؟
هل هناك من تعرض لك بالسوء ؟
يزداد غضبه و يصرخ :
أنا فداك أمي
تجفف الدمع و لكن حرقته باقية في مآقي العيون
تقول في نفسها يكبر عائد و غدا تنطفئ الحرقة و تعود
الروح للجسد المبتور .
ما بك ؟
زاد البكاء و ازدادت غزارة الدموع
بني عائد !
ألم تعلم أنني وجدك ممن غاب عن وطنه
و ننتظر العودة .
تتجافى عيوننا عن مضاجعها و الروح معلقة عناقيدا على شجرات البرتقال .
بني المفتاح وشم على الصدر لم يبرحه منذ سنين .
هو وصية سوف تتناقلها الأجيال و لو بعد حين .

غربة 9

عائد يشتد عوده شيئا فشيئا و الجد لا يقوَ على الحراك
و الجسم يرهقه الهُزال و العيون تغازل القدر .
عائدٌ ينظر بمنظار التأمل إلى أهل لم يرَهُم ، سمع عن
أفراحهم و أحزانهم ، العين بصيرة و اليد لا تتجاوز أخمص القدم .
عيناه تدور و تدور و لكنها لن تبرحَ مكانها الذي غُمست فيه ،
يسأل أمه عن تاريخ هجَرته و جغرافيا ارتسمت حدودها في الذاكرة .
يخرج عائد ليتسوق لأسرَته ليشتري ما يلزمهم من طعام و شراب . تعالت الأصوات في السوق و الصوت يُخبرُ بالمفاجأة
يقول : لو فيك خيراً لما خرجت من بلدك!
هذه بلدُنا ليست للغرباء !
كلماتٌ لها وقعٌ في النفس ، من أين أتى ؟
هل انعدم الخير في الناس ؟
و هل الوطن حرام على المستضعفين ؟
تساؤلات تخترق جدارَ العقل ، و هو يستطرد قائلا : مَنْ هذا الغريب و مِنْ أين أتى ؟
هل يتدخل للمساعدة في فض الخصام و الحدِّ من علو الصوت ؟
تمكن الناس المتواجدين من فضِّ الشجار و تهدئة الطرفين ، و بدأ الطرفين بالتصافح و تقديم الإعتذار لبعض .
تقدم عائد من الغريب و قام بمصافحته و كأنه يشعر
بقرب منه . بدأ الغريب يسرد قصته لعائد
و كان شعور بالألفَةِ بينهما من انتاج لحظة ، قصة لم تكن غريبة على عائد فهي تتردد على مسامعه باستمرار ، فالمفتاح الأسطوري ما زال في ركن البيت و معلق في رقبة والدته أحيانا أخرى .
استدعى الغريب لضيافته إلى البيت ، لإكرامه ، خاصة و أنه تجمعه حكايات مع والدته .
استأذن والدته ليتسنى له الدخول ، و رحبوا به ، قام بمصافحة الجد العجوز ووالده و جلسوا مع بعض .
بدؤوا بالسؤال عن بلده و ما أتى به ، و بدؤوا يسمعون قصة لم تكن مستغربة عليهم . لقد جمع الله الشتيتين بعدما ظنَّ كل منهما عدم اللقاء .
إنه أحمد بن الجيران الذي كم لعبنا معه في الحارة و ركضنا في البيادر نصطاد الفراشات و نتسلق الأشجار لإلتقاط أعشاش العصافير . يا الله تغيرت ملامح الجسد و اشتدّ الجسم و لكن بقي شيئا من الماضي الروح الطيبة المعبقة بعبير البرتقال.

غربة 10

أنهى عائد التوجيهي بتقدير جيد جدا و تهيأ لمرحلة جديدة
لدخول الجامعة ، تقدم بطلبات القبول ليتسنا له دخول كلية الحقوق ،
التخصص الذي حلم به كثيرا خاصة و أنه يرى الكثير من المظلومين الذين تنثرهم الأيام على الأرصفة ، يتخلَّوْن عن أوطانهم و ممتلكاتهم عُنوةً عنهم ،
لم تفارقه نظرات الحزن التي ارتسمت على عيني أمِّه التي هجرت أوطانها
و مات جدِّه في غربته دون أن يتحقق له حقَّ عودته لبلدته و ناسه
و بيارات البرتقال .
بدأت السنة الدراسية و قامت الأسرة بتحضير حقائب السفر لعائد ليتوجه إلى الجامعة ليدرس تخصصه الذي كان يحلم به ، فتزود بما يلزمه من ملابس و الأدوات الخاصة التي طالما كان يستخدمها مثل فرشاة الأسنان و المقصات و مذكراته التي كان يدوِّنها بين فينةٍ و أخرى و رسائله التي تمَّ تبادلها مع الأصدقاء .

التحق بالجامعة و أخذ غرفة له في سكن الطلبة التابع للجامعة برفقة اثنين من الطلبة الذين كانت معرفته بهم حديثة .
توجَّه عائد إلى مرافق الجامعة و أقسام التسجيل و كان برفقة بعض الطلبة الذين أخذوا على عاتقهم استقبال و ارشاد الطلبة الجدد .
راق لعائد ما شاهده من نقلة نوعية في طبيعة الحياة ، من حوله الطلاب و الطالبات ، وضع جديد لم يكن مألوفا لديه فقد كان في مدرسة تمنع اختلاط الجنسين بينما هنا اختلاط و طلبة من بلدان مختلفة .
بدأ عائد يتعرف على الطلبة و يتعرفون عليه فمعظمهم وافدين على الجامعة و من جنسيات مختلفة من السعودية و من اليمن و قطر و غيرها ، لغتهم واحدة و لهجاتهم مختلفة .
اهتم عائد بدروسة و كان من رواد مكتبة الجامعة لجمع المعلومات و الاستزادة من المعرفة ، فلا يكاد يمر موضوع إلا و يبحث عنه في أروقة المكتبة و بين صفحات الكتب .
انتهت السنة الاولى و كان قد تميز بين أقرانه و نجح في جميع المساقات و أخذ يستعد للسنة الثانية . توجه للتسجيل لمعرفة المساقات التي يمكنه تسجيلها و القسط اللازم لذلك ، قابله مسؤول المالية بابتسامة عريضة و قال : هنيئا لك لقد تم اعفائك من 50% من قيمة القسط .
عاد فرحاً للخبر ليخبر به أسرته و أمه ، فتذكر عندها ( لكل مجتهد نصيب )
فهذه أولى ثمرات الاجتهاد . مرت عليه سنة تلو أخرى و النجاح من حليفه .
بدأت السنة الرابعة بعد ثلاث سنوات من الاجتهاد و النجاح و لم يهمل واجباته و نشاطاته . لفت انتباهه طالبة بدأ القلب يخفق عند رؤيتها ، تلاحقه نظراتها و تلاحِقها نظراته ، تهدل خصلات من شعرها على الجبين ، العيون عسلية ،
قوام معتدل ، طول متوسط و بشرة نرجسية متلألئة .
عائد في صراع مع نفسه ، صراع بين النجاح من ناحية و بين أن يعيش الحب من ناحية ثانية ، يراوده السؤال تلو سؤال ، هل يمكنه التوفيق بين الدراسة و بين العشق؟؟
هل يمكنه كبت المشاعر و خفقان القلب ؟
هل يخبرها بمشاعرة و يتخطى الحدود ؟ وما ردَّة الأفعال ؟.

غربة 11

يحمل عائد حقائب ملابسه وحقيبة الكتب وشهادة المحاماة ليعود إلى أحضان أمه تاركا خلفه الحب الذي يسكن جوارحة ، تنقله الخطى للأمام والعيون نظراتها للخلف ، يوّدع الأصدقاء الذين رافقوه مسيرته التعليمية وتحملوا معه صعوبات الحياة ، وكلّه ترقبا عساه يرى بريق العينين ووهج الجبين لتلك الفتاة الساكنه في جوارحه وقلبه يخفق تبعا لنبضات قلبها . يخرج وكله أمل أن يعود إليها لمتابعة دراسته العليا ويلتحق بصفوف الناس المرموقين في المجتمع والسلك التعليمي والاجتماعي .
يركب الحافلة في طريق عودته وتحمله الخطى إلى مشارف البلدة التي استعدت للاحتفال بمناسبة تخرجه
ورجوعه حاملا الشهادة التي تكللت بها سنوات الدراسة .
خرجت أمه تلاقيه بالزغاريد وعبارات التمجيد فهو أول أبنائها الخريجين فالأخوة مازالوا على مقاعد العلم والدراسة.
احتضن عائد أمه وقبّل جبينها ويديها والدموع تذرف من كليهما ، دموع الفرح ممزوجة بدموع الذكريات ، فالعيون يرتسمُ فيها حبَّ الديار
وأطلالَ المنازل.
في المساء اجتمع المهنئون من أبناء البلدة والأصدقاء فلسان حالهم يقول مبروك التخرج أم عائد وعقبال العودة .
ابتسامة وتنهيدة
طال الانتظار كل يوم ارتقاب لعودة معتصم وعودة خالد بن الوليد
و الأبواب ما زالت مغلقة ،
ينظر عائد من حوله والأذن تستمع لعبارات الأمل والحب مبارك عائد النجاح ، وإن شاء الله نفرح فيك ، وعائد يفكر بالعمل بعد التخرج
هل يبحث عن عمل في البلدة أو المناطق المجاورة ام يشدد من أزر أمه التي مازال قلبُها معلق بأرض خرجت منها .
هل يستجيب لنداء الضمير ويحمل مع أمه بساط عودتها لعله يجد مكانا آمنا لرفات جده الذي مازال يحن لمسقط الرأس .

غربة 12

تنقضي الساعات والأيام وعائد يبحث عن عمل فينقصه الخبرة وليس بالإستطاعة فتح مكتب خاص للمحاماة ، توجّه لأماكن عدة والعروض لا ترضيه ولا تلبي أدنى طموحاته . المكتب الأول عرض عليه عمل لا يعطيه أي امتياز ، والراتب لا يكفي المواصلات وأجرة السكن ، والآخر مياومة والثالث عمل جزئي .
عروض العمل لا تلبي طموحات أي خريج جامعي ولا ترتقي به إلى مستوى الحياة الكريمة . العقل في حيرة ، فالبلدة عاجزة عن توفير فرص مناسبة والغربة لا تحقق الراحة والاستقرار النفسي ، فالنظرة للغرباء فيها احتقار ودونية .
هل يجمع أمتعته ويبحث عن العمل في البلدان المجاورة ويترك أمه وأسرته
الذين تشوقوا كثيرا للقائه وعودته إليهم سالما واقترابه منهم .
أغلقت الأبواب أمام ناظره فقرر التوجه لمؤسسات حقوق الانسان التي كثيرا قرأ عنها ، حتى يتمكن من الإنخراط فيها وتقديم ما يمكنه تقديمه للمنكوبين وضحايا الحرمان ومن تعرض لاعتداء الجانحين وضحايا العنف والتحرش التي كادت تقضي على طموحات وآمال الكثيرين .
تقدم بطلب التوظيف لدى مؤسسة تهتم بضحايا العنف والعدوان وجرائم ترتكب ضد المرأة من تحرش واغتصاب وسلب أهليتها . تم اختياره من ضمن مجموعة من المتقدمين بطلبات للتوظيف ، فأوكلت إليه مهمة استلام طلبات الناس الذين يتعرضون للعنف الأسري .
يبدأ عائد باستلام مهامه وجلس في مكتبه برفقة ثلاث من الموظفين رجل وامرأتان، شيماء طويلة ونحيفة وذات عينين واسعتين وبشرة هندية راقية وتمتاز بشعرها الأسود المدلى على الظهر ، بينما هند تملك من صفات البدانة ومتوسطة القامة ، كثيرة الكلام والملاحظات رغم ما يبدو عليها من علامات التعب الناتجة عن الحمل ، أما أحمد مغلوب على أمره فهند تكاد لا تتيح له فرصة التعبير أو حتى الحديث .
انخرط عائد في جو العمل وتكيف مع الزملاء والمسؤولين . يوما فيوم تقوى العلاقات بينه وبينهم ويتمكن من تقريب وجهات النظر والصداقة بين الجميع .
يلفت انتباهه نظرات شيماء وعيونها العسلية التي تخفي الكثير من معالم السحر والجمال وصوتها التي تعزفه قيثارة وترية مخبأة في الجوف وحركات خصرها عندما تتموج كسنديانة على ترنيماتها القلب يدق ويخفق . الهوى ينمو في الجوف والأحلام تراوده وتنفث فيه الرغبة والميول ، ولكن شيماء تكبره في العمر فهي تجاوزت الثلاثين وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين .
الصراع يشتد بين الرغبة والمشاعر التي تولّدت وتترعرعت في الذات وبين عامل العمر الذي يكاد يقضي على مشاعره النبيلة .
الكثير من الغموض يكتنف روحه فهو يتساءل هل العمر عائق وما علاقته ما دام القلب يهوى والإعجاب أصبح متبادل فالعيون تكاد تفارق الأوراق لتتسمر في عين الآخر .
يطيب لعائد ذكر اسمها وتقديم أي مساعدة لها وهو على استعداد أن يفديها بنفسه.
ينقص عائد جرأة ليعلن مشاعرة للملأ مهما كانت النتائج . فهل يعلنها ويتخطى حاجز العمر . ويخبر أمه وأسرته ليسعدوا بالخبر.



غربة 13

تجمع أم عائد ما تبقى من الذكريات كرت تموين وكوفية ومفتاح وقمباز مازالت تحتفظ بها في درج خزانتها ، تتفقدها باستمرار
وتفتح المذياع أحيانا الذي عتقَ مع مُرور السنين عليه وتراكم
حبات الغبار ونسيج خيوط العنكبوت .

تخرج إلى الحي كعادتها تستطلع أخبار الناس فهي كصحافية بدون شهادة وتمتهن وظيفة اختارتها لنفسها تستجدي منها الأمل الذي يكاد يذبل يوما بعد يوم .
تفاجئها الأخبار بأنباء سارة أحيانا فما تلبث أن تتبدد وتتلاشى عند حلول الظلام .
فرقة وخلافات وصراعات هنا وهناك ، تمزق أكباد الأشقاء .
تبني الآمال الكبيرة على ابنها عائد الذي يرتقي يوما فيوما في عمله الذي
يمثل لها الاستمرارية التي ستحقق أحلامها التي ترويها بقطرات دمعها وتغذيها شجون النفس والمشاعر التواقة للعودة للديار .

يعود عائد بعد يوم عمل شاق مُرهق . يعلو الوجه بعض التنهدات وتجعيدات الجبين ، ليس كعادته مما لفت انتباه أمه التي تتفقده عند خروجه وعند عودته للبيت .
أين الابتسامة والوجه البشوش ؟
ما بك بني ؟
أسئلة تتوالى وارتعاشة في الأوصال
ما دهاك يا بني ؟
يطلب منها عائد السكوت فالارهاق يغلف وجهه ويكسيه بالعبوس .
كيف بي السكوت وأنت بهذه الحال
تكلم بني؟
رد بصوت خافت : وماذا أقول ؟
أخبار لا تسر البال يا أمي
صديقتي التي أرغب الزواج بها (شيماء) قاموا بهدم بيت أهلها وقلع أشجار زيتونهم
وتم استشهاد عمّها وجرح العديد من الناس الذين قاموا بمحاولة التصدي من أهل بلدتهم لمن يحاول اغتصاب الأرض والمكان .
تصيح أم عائد :
يا ويلي كتب على شعبنا القتل وهدم البيوت وقلع الأشجار والتشريد
يرد عائد لتهدئة أمه : إنّه قدرنا
ماذا بالنسبة لصديقتك (شيماء) يا بني هل هي بخير؟
رد عليها والدمعات تفر من عينيه :
وكيف تكون بخير بعد هذا المصاب؟




غربة14

لم يكن العدوان الأول فالإعتداءات تتكرر هنا وهناك، يجتمع الأهالي لتقديم العزاء ومواساة بعضهم ، يتبرعون بالمال والأشجار والجهد . يغرسون أشجارا عوضا عن الأشجار التي هدرت وخلعت من جذورها ويبنون عوَضا عن البيوت المُهدّمة .
تعود شيماء للعمل في مكتبها الذي اعتادت عليه وبسمتها غائرة في ثنايا الوجه والدمع يبلل الجفون ، تكاد لا تهدأ النفس وتنحب بين الفينة والأخرى .
صورة العَمّ ماثلة أمام العين ومشهد الجرحى لم يفارق المقل . تسترجع صورة أشجار الزيتون التي قلعت من جذورها
وصيحات الأطفال التي كانت تعلو المكان ،
لم تنس صوت أزيز الرصاص وعجلات الجرافات التي تهتز من تحتها الأرض .
يحاول الأصدقاء تهدئة الروْع وتخفيف المصاب .
عائد باهت الوجه ، شاحب النظرات ، متقطع القلب عاجزا ، ماذا يفعل؟ وكيف يواسيها؟
حبيبته غارقة في الألم ، ولا نسيم يستطيع أن يكفكف الدمع ،
يقترب منها فتسبقه الدمعات .
تأتي مناسبة الأربعين وتنتهي وتمر الذكريات ، يتهيأ الجميع للبسمة لكن سرعان ما تغادر المباسم وتتغلف الوجوه بالعبوس .
في الذكرى يجتمع الأصدقاء ويحملون باقات الورود والأكاليل ،
يتوجهون إلى المكان الذي في ثراه عبق الشهداء من أبناء القرية والذكريات ، يجيئون لإخبار الأرض أنهم لن ينسوا أحبتهم وأنهم على عهدهم باقون .
يعود عائد ليخبر أمه عن همّه . يتبادلان الحكايات ، تسأله عن شيماء ، عن حالتها النفسية وهل تجاوزت المحنة؟ هل ما زال الحزن مرسومة عبَراته على الوجه ،
يرد عائد متجاهلا الكثير من الشجون التي تجهض البسمة . يردُّ على أمه قائلا: الوضع غاية في الصعوبة الناس تجاوزت حد الصبر من ساعات الإنتظار .
تنفث التنهدات من صدر أم عائد نيرانا مختزنة
من مخلفات السنين وأطياف الماضي



غربة 15


الحمية تأخذ الجميع وخيمات الاعتصام تنتشر، ودمع الثكالى لا يجف، هذا يلقي حجرا وهذا يهتف وهذه تحمل بيدها رؤوس البصل لتقي أبناءها خطر الغازات السامة المبثوثة في الهواء . محطات الأخبار والصحف تنشط وتتسابق ليكون لها سبق صحفي والتقاط أكثر الصور تعبيرا، الأخبار تنتشر ومتخصصي التحليلات السياسية ينشطون ، ومؤسسات حقوق الانسان هي الأخرى ترصد وتتعقب الاحداث وسجلات الشكوى لمن نالت منه أيادي الظلم . أم عائد لم تتواني عن السؤال والوقوف على مرتفعات التلال المطلة ، فحلم الماضي لا يجف فكل يوم توقظه وخزة ألم، وتلقمُه ببعض من جرعات الشجن . توقظ الأبناء واحدا تلو الآخر تستحضر الماضي وترسم خيوطه بأبعاد ثلاثية وتدثره بصمت الجيران، تلهيهم الدنيا والهرولة خلف متطلبات الحياة وتحقيق سبل رفاهيتهم . عائد يتوجه مثله مثل أي حقوقي للمحاكم لتشريع قوانين لحماية شيماء ومن تبقى من أهلها فهي صورة منسوخة لتلك الفتاة التي غادرت البيت والأرض ولم تزل تمسك بالمفتاح وقبلتها صلاة معمدة بعبق الكنائس وتستدفئ بأركان المساجد. تتنهد شيماء كعادتها كفصل الخريف الذي يؤول دوما لتساقط الأوراق، تلتفت وتصدح بصوت رنان كان قد خنق ، فعائد ما زال على عهد الأم والأرض والتاريخ ، لأي محكمة يتجه؛ محكمة للدفاع عن حقوق الطفل ومراعاة شؤون المتضررين . تساؤلات ترهقه فلا إجابة لها ( فالسيل بلغ الزبا) ، وضياع الحقوق بات جليا . يجمع أوراقه ويلتقي بالكثير لتتجلى ثبوتية وحق دعوته للدفاع ، وشيماء لا تتوانى لحظة وهي تشد أزره ، فروح عمّها مازالت ترفرف في أفقها تطالب بالثأر واسترداد الحقوق المشروعة لكل متضرر ولكل من هجر وطنه قصرا وعنوة، وتنادي بعودة الطيور التي هجرت أفنانها وأعشاشها .



غربة 16

المواكب تتواصل والجموع تأتي والشهادات لم تتوان في وصف الهوان والكرامة التي أريقت بدم بارد. البعض يصف أشلاء ممزقة والبعض يصف جثثا نهشتها القذائف والبعض يصف الأشجار التي عبث بها العابثون ، كل شهادة تحكي قصة ، تحكي معاناة .
الصفحات تفتح وما تلبث أن تغلق ليفتح نوافذ جديدة وتضاف معاناة جديدة والرجاء والأمل يفتق شجيا من بين السطور .
أحمد الشاب ذو العشرين عاما ما نسي مشهد والده وجبينه الملطخ بالدماء وفيروز لم تنس أشجار حديقتها ذات العبير والمنظر الخلاب التي اختفت عن الأنظار ، أما سعيد فشكواه صعوبة الحركة والتنقل من حي إلى حي بسيارته التي أرهقتها الحواجز الترابية والحجارة الكبيرة التي أغلقت بها مداخل القرية ومخارجها وأبو حسن تذرف عيناه بيتا تهدم على بعض افراد أسرته، وتلك العجوز آمنة ترسم ملامح ابنها المعتقل الأسير خلف قضبان السجن وتعلق صورته نيشانا على الصدر .
الصدمات والصعقات متلاحقة وعلامات الانفعال ترهق
والأصوات تزمجر والأنظار تتجه لله القدير فالآمال في العيون باهتة والطموح مقيد . ينتظرون من يدّعون التخفيف والتعويض لما فقده الإنسان البسيط ليتمكن من استمرارية الصمود.
عائد يعود مرهقا يتصبب عرقا أرجاؤه مظلمة والغشاوة تظلل الطريق ، يتساءل ولا يمكنه أن يجد جوابا مقنعا للدفاع عن الضمير العالمي ، والتساؤل يشتد عندما تراوده سيرة والدته وجده المرحوم فالحقوق متراكمة ولا أحد ينظر في سجلاتها ويبحث في عملية استرجاعها لأصحابها .
تفتح أم عائد ذراعيها لاستقباله وتمسح بمنديلها عرق جبينه وتمسح الغبار عن عينيه ، والأسئلة المعهودة لم تفارق خيالها ،
هل يعود المهجرون؟
هل تبنى البيوت ويطلق سراح الأسرى؟
ولكن في كل سؤال تخنقها حشرجة وآهة ، وتباغتها الحقيقة المرة المتدثرة بثوب أبيض ممتد في الذاكرة .
يحاول الجريح عائد التخفيف ولكن الشجن يتغلب على الجميع فهو مشغول الفكر بشيماء فهو يشاطرها همها وله أمل أن يشاطرها الحياة .











عدل سابقا من قبل محمود قباجة في الثلاثاء مايو 26, 2020 7:06 am عدل 2 مرات
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الخميس أكتوبر 10, 2019 8:38 pm


........17.............
تستخير أم عائد في صلاتها وتدعو الله لأبنائها, تذرف حرقتها
وشجونها. يأتي الطارق يدق الباب بعكازه وينادي بصوته الرخيم
أم عائد...!
أم عائد......!
من على الباب؟
أبو محمود
تضع غدفتها على رأسها , غدفة لها حكاية من خيوط الماضي تتلون سجيتها بألوان تحمل حكاية الأرض والإنسان. من خيوط الحرير لها تطريز وأهدابها من خيوط الشمس, تتنفسها ليعود لها الأمل كل صباح
ترحب أم عائد به
تفضل بالدخول
يجلس أبو محمود وبيده غليونه الذي يحمل بصمات الماضي
إنه الموروث الذي ورثه عن والده
كل جزء منه فيه حكاية , يشعله طرفه بيد وينفضه باليد الثانية, ويأخذه نفسا عميقا , فيه يرى كينونته,
فهو يحترق كل حين دون أن يبدو عليه الكلل أو الملل
يمسك غليونه الذي يروي قصة التين والزيتون
ويحمل أخبار التوت والياسمين . يشعل فيه التبغ البلدي الذي لا تلوكه أفواه الردى.
تبادله أم عائد الحديث
وتسأله عن ذكريات الدار والحوش والحاكورة , تعيده عشرات السنين للوراء . بين سؤال وجواب ذكرى تنهيدة ونغمة فيها الحنين.
الأسئلة مثل السحاب تتفاوت في كثافتها واستحقاقها , ولكن صورة شيماء لم تفارقها .
عن شيماء تسأله وفي قرارة نفسها رجاء
متى تكون عروسا لابني عائد
وتعمر البيت بالأحفاد
تسأل نفسها وتسأله وهو يتلذذ بغليونه وسحابة الدخان لا تقاطع أنفاسه
يتنهد أبو محمود وفي كل تنهيدة تتطاير منه عشرات من السعرات الحرارية. تجعيدات الجبين أصبحت وشما يتموج كموج البحر يعلو وينخفض , في كل طيّة أو انثناء ألف حكاية
ويقول :
شيماء بنت أصول تحمل المسؤولية مثل الرجال, بعد العمل في وظيفتها تحمل الفأس وتذهب للحقل مع إخوانها الصغار
ندعو لها بابن الحلال اللي يقدرها ويحترمها.
رنات نبرته تتغلغل في أعماق أم عائد وكأنها تقول عائد هو العريس
هو العريس
هو الزوج الذي جدير بهذه الأيقونة والرسولة
هذه العرابة
هذه الأسطورة
فهي تشبه بصبرها جميع النساء ولا تشبهها إلا نفسها.
تشبه الخنساء في تجلدها وصبرها وتشبه دلال في إرادتها.
أم عائد تجاوزت الصمت وحنجرتها بدأت تنطلق منها الكلمات:
أبو محمود هل لك أن تذهب مع عائد لطلب يد شيماء من عائلتها حسب الأصول والعادات والتقاليد.
يلتفت إليها أبو محمود وكأنه يقول :
كيف ومتى ؟

غربة 18

تنام أم عائد وتصحو من غفوتها وتجمع ذكرياتها وتجمع حطبها المتناثر بين صفوح وسفوح ، منقوشة سماته في خاطرها تحت شجرة التوت .وفي عب الدوالي.
تصحو وصوت الرصاص لا يفارق حاراتها وتتلون وجوه المارة تارة بالسواد وتارة بالشحوب، يرتعدون كلما هبّت الرياح وعصفت بجدران السدود الأمواج.
تضطرب الأسماع من الصرخات ومن هول الأنين
هذا يسخر من الجغرافيا وهذا يلعن التاريخ
ونظرات المارين تمقت هذا وذاك، والبيولوجيا تستنكر للجينات الوراثية وتعلن براءتها من كل طفرة أو هجين.
يتقاتلون على الماضي ومن يمسك زمام الحاضر
تلتفت أم عائد لتجد شابا وسيما يلتف بثوبه لا يكاد يفارق المكان ، يرفع سبابته ويلفظ الأنفاس، وذاك بترت يده وهناك من فقئت عين الحقيقة لديه.
الأهوال تتمدد مثل الطوفان الذي يغمر الأرض ويستمر في تدفقه.
الجنون أصبح حاكما للعقل يزور معقلا تلو آخر
يبدد آمال أم عائد كلما اقتربت من حدود وطنها لتبتعد مسافات أطول وأطول
الأخ لا يرحم أخاه
معاناة وجفاء
من لم يقتل بحد السيف
مات غرقا في البحار
تستجمع أم عائد ما تبدد من عزيمتها وتستصرخ ما تبقى من عزائم وتحيي ما بقي من رمق الضمير. عائد مازال يتأرجح بين تناقضات الحياة وتراكمات الألم وذاك الحلم وذاك الطموح وتلك الحبيبة التي تعشش بين جوانحه وفي ظل الفؤاد.
تستثيره غريزة البقاء والاستمرار
خلق ليكمل المشوار
ويرسم حدود الأمل وينهي فصول الغربة


غربة 19
ويأتي
ويأتي الحلم وتجاري العين غفوتها، تسافر على بساط الريح وتعتلي هودج الأفراح.
من عبور إلى عبور، تركن الرحلة على شاطئ النوارس البيضاء، تغوص في بحرها والدر معلق على جيد غفوة، تقبل الثرى وتحتضن الشجيرات الزاهية بكل لون. ومازالت أم عائد تتلحف ببردة الحنين وتنتظر قطاف الصبر الذي غرسته في الأبناء. تسامر اللحظة وطرفة العين تكتنز بصيص النور. وتبقى في دوامة السؤال والانصهار في جفنة الماضي المعبقة بتيجان الفصول.
هل تتفتح أزهار الربيع كل حين وتبرق الخزامى في ربوع الميادين؟؟. تعدد الألوان من بياض أقحوان إلى المتلحف بعباءة البسوم الأصفر.

تتسمر العينان والفنجان يلبس عباءة الفيروز الممزوج بغنج السماء والممتد في عروق البحر. تسبرها رعشة حلم في ليل تقتات على أضواء مدينة ترحل إليها القلوب كلما هبت للصباح نسائم وعانقت المناجل عتق سنابلها. تأتي لتتدثر ببردها المزركش بألوان الطيف الذهبية، تغمض تارة وتقفز النظرات بإتجاه الأزقة والشوارع العتيقة، كالبرق تقدح شرارات وتعزف القيثارات لحنها.
تستدعي النجم الساهر فوق سدرة الجبين وعلى الأسوار وتستذكر من الدعاء أحجية ذات أبعاد ثلاثية، في كل استخارة وحي يأتي وعين الصبابة في خدرها يتجاذبها الطوفان وعصف الموج الهادر الذي يطوق عنق المكان.
أمواج تتقوقع وتلتف حول نفسها، كسارية ينعتها الريح حين هول ورعب، تكسر ذاتها ذات وله، وتحمل قارب عودة وروح.
يجتمعون من حولها الأبناء، عائد ونفسه التي نظرها للدفاع عن الحقوق، وأحمد ومعوله والمقنع وبندقيته البتول. الجيران كموجات تسونامي، متعاقبة لا تكل ولا تمل. تعلو تارة وتعلو فعناق السماء له عروج وارتقاء.
ذات سهر تفقد الأجفان بعض من الرموش لتعبر عن سخط من تراكم الهلوسات وغفوة هستيريا.
جنوح وقارب أسفار وترحال، أمره غريب القلب يجفى الغربة ويزداد اغتراب!!!.
طواعية يركب الموج العاتي ويستقل عن الغفوة التي تجفى التمرد والصهيل.يغمض العين، وينتظر
قرع أجراس الكنائس وتهليل له في كل فجر برزخ وعنوان.


عدل سابقا من قبل محمود قباجة في الخميس أكتوبر 10, 2019 8:51 pm عدل 1 مرات
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الخميس أكتوبر 10, 2019 8:44 pm

غربة20

انتظار تلو انتظار يطول والأسوار تعلو والجدر، يهرول البعض لنيل الفتات المترامي المدنس،ويحرفون اتجاه البوصلة للخلف.
يساومون أم عائد على أرضها وأشجارها وأهلها، يحاولون مسخ حقها وتزييف الحقيقة والواقع. تبقى الحيرة والرغبة تشتد رغم الطرق المبهمة والتخوف من المصير الحتمي وتلك العولمة الجاثمة على صدر الغلابا من البشر.
يجتمعون في باحات الكنائس وباحات المساجد والأماكن العامة، عين ضاقت بما رحبت وعين بيدها مفتاح الأمل.
من بعيد يتردد الصوت والمكبرات تهتف وتردد بعض التميمات، أدعية بكل اللهجات والترنيمات متصوفة والابتهالات كلاسيكية من موروث الأجداد كأنهم على موعد مع القدر. تستطرد النسوة ندبة الأولياء الصالحين وأصحاب المقامات الذين يعتقد لهم كرامة وندبتهم تحقق مدى الاستجابة.
تنصهر الألوان جميعا في لون طيف واحد قزحي يختزل خضرة الأرض وحمرة الدماء، يختزل الأبيض ولون السواد. يختزل الألوان في لون زهرة أقحوانية يتكلل بها زهو الجبال.
يجتمعون كظلام الليل الحالك. القمر محاق والخيط الأبيض يكاد لا يرى. تسير الخطى الوجلة والعيون تسبقها النظرات . هناك أم عائد ولفيف ممن عاينته الظروف واختارته قسوة الزمان ووئد في داخله الوجدان .... بين من هجر بلدته قسرا وبين من فقد أحد أحبابه أو بترت أطرافه، ولاذت به الدنيا بدون معيل أو نصير . يساقون بإتجاه القدر المحتوم . هذا يتكئ على عكازه، وهذه تعلق مفتاح جدتها على رقبتها، وهذه يتجسد وشم المعاناة على صدرها. قباب وأهلة وصلبان، ومن يحمل أثقاله وأعباءه على ظهره .
بين دعاء بالصبر ودعاء استخارة يتجرع كل من كأس الصبر. أم عائد لم تفارقها الأمنيات والتخيلات، فتتساءل عن التوتة والخروبة والبرتقالة والدالية. ربي هل بقيت وحروف الاسم منحوتة على السيقان، هل يكتب العمر كي أراها واستظل بها وأترنم بالرقص على الأرجوحة التي نصبها الوالد رحمه الله قبل الرحيل؟؟.
يتقدم الجمع ويلتفون حول غصن سلام ، غصن ارتوى من شلال النبعات. رقراق يمتد بين ثغور الأرض وبادود دفنت فيه اعقاب الدبال.
تمتزج حشرجات الروح مع تنهدات الحوامل وصبية يتأملون السماء الرحب الذي يعكس توجسات الموت والخطر.
السماء لم يحالفها الحظ في تلك الليلة حيث امتزج هدوء العاصفة مع شعل ملتهبة تأتي مع السحب المتطايرة. في تلك الأثناء ساد الظلام واختلط الخفق مع الأمل الذي لا ينقطع.
صوت من بعيد يقول:ما قطع الراس إلا الذي ركبه
وأم عائد تستذكر الخنساء التي سيرتها تربط جأش القلوب وتلهم الفوارس.


غربة 21

في الصباح تهيأ الديك ليطلق العنان لصوته
ليخبر الملأ عن موعد العاصفة، يرتفع الصوت وتهتز الأوتار المفتولة في قصبة الناي المترقب عزف الحنين.
في كل ركن وخزة من ذاك الأخطبوط الذي نزلت البراءة منه و الملتف على خاصرة المساء. يقذف لهيبه على الأرض وعلى أقمار المدى المعمور، يقذف الحقد الداكن المغموسة به نواجذه. يلسع الدقات المتدفقة بين خمائل النرجس الرابي في الحقول والأقحوان.
لا يردعه هدنة ولا نية التسامح ولا صلاة البكارى على سروج الخيل. يجادل ليدحض الحق وتنقلب الحقيقة.
من خلف جدرهم يشعلون نيران الغضب التي لا تميز الأصناف بين حي وجماد والأنوار كادت تفقد سماتها. توحيدة لاذت بها عين التمادي بين خبايا الروح وعيناي أم عائد صوب المغيث.
أخبار وأنباء وندبة الروح أصقلت كاهلي أم عائد وأبنائها، تطلق الزغرودات مملوءة بالفرح المغبون، الفرح الذي نادت به مدارك الرؤى والآيات الكريمة.
تزف به ذاك الشهيد وتضمد جراح من فدى الأرض بما هو النفيس وما زالت جمل المحامل لم تتوار لحظة عن الركب.
يترجل عائد ويرسم معاناة أهله وأهل أمه ليزخر بربيع تزهو به شجيرات البرتقال.
وما زالت الأقدام تدق طبول الأرض وتتثبت بين صلد الصخر وتربة الخصب التي باركتها السماء
غربة22

ما زالت الحشرجات تزاول نفسها وذاك الوعيد يتربص بلفيف الحشد والنظرات الحالمة التي تتشبث ببقايا ما منحه لها الحق وضمنته لها القوانين.
تلتفت وتتسمر أمام مذياع بلا هوية وبلا وجود يحمل خربشات القول وتجاوزات التأويل
عبارات لا تنسى
حق وعودة
كرت وتموين
مخيم وخيمة
مفتاح وقرار
ويأتي الصوت الداكن لينفي الحقيقة ويطمس كل الأرقام ويتباهى بمقعده النرجسي على صدور البسطاء ويدوس أغصان الزيتون وزهرات البرتقال.
لم تيأس أم عائد فرغبتها جامحة فالأصايل تصهل فوق مروجها وعند همهمات الأصيل.
تجمع نفسها ومتاعها وتخاطب الأبناء
تخاطب عائد الذي نال منه الحب لصديقة وزميلة الروح شيماء
متى نذهب لخطبتها؟؟
أريد أن أرى بعيني الأحفاد وأن احملهم وأخبرهم عن حكايتي مع الزمن والتهجير،
حكايتي التي تتجدد مع كل تنهيدة ومع كل قرار.
بعد أسبوع وبعد قرار وبعد موعد تمت خطبة شيماء لتكتمل معها حكاية قلب شغوف بالهوى ودقات تجاري قرع الطبول.
تتمادى ام عائد في نظرتها وتطور الحال وتتقافز الخطوات وتكاد تكسر كل شيء من أمامها ومن بين يديها، تهم بمغازلة القذائف التي تتجسد العناء وتتهالك معها الأبعاد فتلتحم مع حبات الرمل ومع أجاج البحر وموجاته الهوجاء.
يأتي القرار وتتزاحم النظرات مع الآمال، فالفلذات تخوض معركة الأمعاء الخاوية، والأنفاق تحتضن أكباد الأمهات وآمال الروح المتنامية.
أم عائد تجهز نفسها لفرح عائد لتحيي له عرسا وفرحا تستذكر معه قصة ظريف الطول الذي عشق وطنه وبلده وبندقيته. تستجمع أغانيها والترويدات وتحضر الحناء ومن حولها الجارات والصديقات والمعارف ليعلوا معهن الغناء والزغرودة وتوزيع الحناء على كل المشاركات في احياء الفرح.
تحضر الجاهة العروس بثوبها الأبيض وتكللها بالعباءة السوداء عنوان العزة والشموخ.
يمسك عائد بيده العروس ويتوجه مع أهله وأهلها إلى صالة الفرح تحيطهما الزغاريد والأهازيج والترويدات.

تكللت الفرحة بالفرح ونظرة الشموخ حاضرة والرصاص يعلو صوته في سماء الحي
والدبكات على صوت الشبابة وعزف الدفوف تنصهر مع الذات ومعاني الفداء.

بعد شهر من الزواج عقدت أم عائد العزم من جديد تطالب بالسماح لها أن تزور بلدها
وهي لا تعدم وسائلها المتاحة وغير المتاحة من أجل حلمها الأزلي وطموحها اللامحدود.
تنظر بمنظارها ومرصدها وترتقب،
تنتظر صوت ذاك الغريب الذي يحمل رايات النصر والمناصرة.
تنتظر أصحاب الفرضيات والنظريات ليضعوا حلا لها ولأمثالها بعودتهم على عجل.
في ذات صباح استيقظت أم عائد على قرع الباب...
من على الباب؟؟؟
أجاب الطارق:: أنا عائد وشيماء
جئنا نقضي أياما مع الأم الحنون
لنأكل من أياديك الملتوتة والبسبوسة والمسخن
تعالت صرخة أم عائد من الفرح
هلا بالغوالي
أجوا الحبايب ...... نور العين وضياؤها.



محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الأحد أكتوبر 13, 2019 2:10 pm

غربة 23

موسم القطاف يتجدد والأمل في جيد الخيل معقود، غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون.
بين الآمال والطموح نظرات أم عائد تتمدد لتطال من رفعة الجبال والشموخ. تسترخي همتها تارة وتارة تنتفض وتهز عكازة الزمن لتنفض عنها الغبار المتراكم والأكدار لتتساقط الهموم كأوراق الخريف الذابلة.
في ذات صباح تفتح مذياعها ذو الصوت الخافت الذي تجعدت ملامحه من الهجران وكثرة الكدمات، تفتحه لسماع فيروز تغني
،،، الآن الآن وليس غدا أجراس العودة فلتقرع،،،
فيفاجئها خبر صفقة يتجسد فيها معاني الغربة من جديد.
في كل يوم غربة وبعد كل حلم اغتراب وما زالت الأنباء تتوالى بين هل تصدق أو لا تصدق. الأمر سيان ما قطع الراس غير اللي ركبه المقولة التي ترددها أم عائد عندما تشتد عليها الأمور فهي لا تختلف عن أم محمود وأم ثائر وأم يحيى.
تتجافى الجنبات عن مضاجع وطن وعن شمس العودة والحرية ونظرة العين مكنونة بين أجفان الأمل، تنتظر ذاك الحفيد وذاك الوليد الذي في عروقه يتجسد نبض ثائر ونبض جيل جديد . جيل لم يستشعر بعد بحجم المؤامرة ولم يستشعر بخطورة الصراع الجاثم على الصدور ويغمغم بظلاله على النفوس.
في كل لحظة تطرق أسماعها ليأتي الخبر اليقين وترتسم أمامها أبعاد الصورة الهلامية خلف الشاشة المرئي ضوئية لتخبرها عن جنس الوليد.
يا الله!!!
الحمد لله!!!
مبروك يا شيماء
مبروك يا عائد
الفرحة اليوم ما توسعني
الله يا أولادي الفرح عماله يقترب من جديد، بكرة بنعود لديرتنا ونعود لبيارات الليمون
بكرة بنعود للتلة وللوادي ونقطف الزهرات من مرج العيون، بكرة يا أولادي تكتمل فرحتنا تشتبك أيادينا وعلى عزف الناي نغني مواويلنا نغني ظريف الطول وعلى البيدر نجني سعادة وأمانينا.
تلهم أم عائد قلب من عرفها ومن يحمل في صدره نفس الشعور. تسمع الأخبار وصارت في التحليل تجاري المتخصصين في السياسة والصحافة ويرسمون الاستراتيجيات المأمولة لكل جيل.

صفقة القرن لم تهز قريحة أم عائد فهي تعلم أن الجلد يحس به الجلد من الخارج وكلما تعمقت الجلدات فلن تؤثر. فالخبرات باتت متوارثة والخد تعود على اللطيم.




عدل سابقا من قبل محمود قباجة في الأربعاء أكتوبر 16, 2019 4:08 am عدل 1 مرات
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الأربعاء أكتوبر 16, 2019 4:06 am

غربة 24

تجلى الصباح وانكشفت السحب عن شمسها
تستجمع نفسها للقطاف فشهر تشرين يغازل حبات الزيتون المتوهجة وأغصانه الهادلة، كعادته.... رياحه تحمل الغبار وبرقه يخطف الأبصار وصوت رعده مجلجل.
في صباحها تستنفر أم عائد الأبناء وتحثهم على النهوض، يحملوا السلالم والفراش ليتهيئوا للقطاف الذي تعودوه عاما تلو عام.
هذا يفرش وهذا يصعد على الزيتونة وهذا يتسلق الأغصان فكل واحد يكمل الآخر كخلية النحل ، والحبات تتساقط جنية على البساط المزركش بأجمل الألوان.
الجميع يجارون بعضهم ويجارون أهل الحي في موسم القطاف. يتسابقون والفرحة تغمر العينين والوجنات . يستبشرون بذاك العماد للبيت وسر من اسرار الشموخ والغبطة في النفس .
أيام وينتهون من جمع المحاصيل، جزء يعملون منه المخلل بأصنافه المتعددة بعد رصعه بالحجارة المعدة لذلك واضافة الملح والتوابع من فلفل وثوم والصودا وما فاض من الزيتون يذهبون به الى المعصرة لجني الزيت المعتق بمعانيه وفوائده والغلال والجفت.
كل عائلة تسعى لتأمين حاجتها من الزيت وتخزين كفايتها. فهو مادة غذائية أساسية تحتاجها كل عائلة على مدار العام. منه تصنع الصابون ومنه تعمل الملتوتة والزلابية والمطبق وتقلي به الخضروات وتضيفه على الحمص والتبولة وتطهو به الطعام وتعجن به المعجنات وتعمل منه المقدوس والمسخنات.
أم عائد تنتهي من القطاف وتجني زيتها وتبيع الفائض الذي يمتاز بجودته العالية وتستعد وتهيئ النفس للحراثة وشق قنوات في الأرض لتساعد في تخزين ماء المطر ومنع انجراف التربة.
تذهب للجار أبو أحمد صاحب التراكتور الأزرق من طراز الفورد المعروف بأمانته وجودة حراثته وتطلب منه حراثة الأرض.
المواسم تتابع بعضها وأم عائد لا تهمل أرضها وأشجارها فعين على الشجر وعين على العشب وعين على التربة، فلها من الأعين ما يفوق عدد العينان. تسخر طاقتها للأرض التي تعطي دون كلل أو ملل.
معولها بيد والمنشارة بيد والمنجل بيد فهي تخاطب الأرض بموالاتها، وبهمسات الحنين المتعمقة بين شذرات النفس، فالشيفرات لا تنقطع والموجات اللاسلكية تبث دون انقطاع.
تمسك بكل خيط فيه قداسة تربطها مع غروب الشمس لتسكن مروج الطمأنينة التي تمتد بين بحرها والنهر.
تنام أم عائد ونبضات الصدر لا تنام فهي تجمع الأبعاد والألوان لترسم ذاك العلم بألوانه التي تخاطب كل المعاني، وتلك السارية التي تعتلي قمم الشموخ ومن وهج الضياء تغزل شراع عودة.
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الإثنين مارس 16, 2020 1:16 am

غربة 25

تتعمق اللهفة بين أسراب الحمائم، تأتي في مواسمها ... موسم صيف أو موسم شتاء. ففي كل موسم أقدام تحط وأقدام تسعى إلى الترحال.
يأتي طائر اللقلق بجناحيه الكبيرتين ويحط رحاله على قمم الأرز والسنديان. يأتي معانقا سنابل القمح الذهبية ويهب الروائع من جمال لكل السدرات. رغم الترحاب عينه تحن للمغادرة إلى وطن هو ملاذه وحصنه الدافئ الأمين.

يأتي ويرتحل وأم عائد ما زالت في غربتها تحزم أمتعة العودة وتستطلع أخبار ديرتها وتوتتها وتينتها وداليتها فلم تنس الحاكورة ولعبتها المضرجة بحنين الذكريات.
تهز منديلها وتصوب اتجاه المذياع، فالأصوات خافتة والهتافات ممزوجة بالأنين والتحنان. المارة ليسوا كالمارة والعابرون ليسوا كالعابرين. فقد الرجال زيهم ، فقدوا القمباز والكوفية والعقال، والنساء تخلت عن ثوبها المطرز وغدفتها وزعابيطها والحزام.
في بلدي أصبح المعقول يساوي اللامعقول والشاب يساوي في مظهره فتاة تعريه ويعريها البنطال الممزق والعدسات الملونة تعكس لونها الفتان.
أم عائد في صراع مع نفسها ومع التجاوزات والتنازلات. فأصبح الحليم مخبولا وأصبح المجنون ذا قرار حكيم. تولى الأمور لغير أهلها والحارس لص من براثن السنين.
تلتفت أم عائد فعسى الصيحة تأتي، والبوق يزفر وعده بعد حين.

يبلغها الخبر الفصل. قرار بالتهجير وتوطين المواطن في غير بلده وبين ناس لا يتكلمون لغته.
تجحد أم عائد بكل مقولة تسمعها .، فهي درست في الموروث
عائدون
عائدون
عاجلا أم آجلا عائدون
شيوخا وشبانا وأطفالا عائدون
مازال الطفل حنظلة يرتقب وقبلته الشمس ومازالت الصخرة راكنة على الظهر ترتحل.
عائدون مهما تخلى الزمان ومهما تقزمت الإرادات، فلا ضمانة لمغتصب
ولا راحة لمستعرب.
الأمر سيان ، أم عائد تثير الهمة وتلهب حماسة الجبال، تستطرد من هم ماكثون .....مرابطون.... وعزائمهم تربو على صفحة الحمال.
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الإثنين مارس 16, 2020 3:18 am

غربة26
عائدون مع النسائم الصباحية ومع التراتيل التي ترددها الحناجر مع حنحنة العزف. لا تكل أم عائد في نظرتها وإرادتها فهي تزداد اصرارا وتزداد إرادتها صلابة يوما بعد يوم.
عائد يمسك بيد شيماء ليخرجان في رحلتهما إلى المناطق العالية والمشرفة على السهول والمروج ليلتقط صورا لذاك المكان الذي تحيطه البساتين وتمر فيه الجداول والينابيع، وتلك البلدة التي ذرفت لأجلها الدموع وتصلبت لأجلها النظرات.
في كل خطوة هناك دعوات تصحبهم بالسلامة وكأن الهواجس مازالت تتأرجح بين الخوف والطمأنينة. فهناك مازالت الفيروسات ومازالت الأوبئة التي تتعمق في الأجساد وتوهن بعض العزائم.
تستذكر أم عائد مرض الحصبة الذي فتك بالعديد من أطفال وأهل بلدتها ، فلا تطعيم ولا وعي يساعد في حماية المصابين. فما يكاد الانسان من تجاوز مرضا إلا وأن هناك آخر أشد وأعظم خطورة.
تستذكر أم عائد ذاك الزمن وذاك المكان، لا تتجاوز برهة ولا موطئ قدم إلا وتعود بها الذاكرة وتعصرها معاناة الألم. هجرت بلدتها وفقدت والدها وعانت في ترحالها ومواطنها واحدا تلو الآخر.
تشتد بها عاصفة الكورونا، هذا الفيروس الذي تحنجل في عقول وذاكرة الجميع.
البعض يسخر منه والبعض يغيب عن الوعي من رهبته. وما تزال أم عائد تردد مقولة يا جبل ما تهزك ريح.
لا قرار
لا صفقة
لا تهجير
لا كورونا
لا طائفية
لا حزبية
لا شيء يمكنه أن يلغي قرارنا لنعود إلى البيارات والحواكير . فالشوق فيض يتجدد والمذياع كل لحظة يأتي بخبر جديد. تقوم أم عائد بإعادة التوجيه لبوصلة الإتجاه للهوائي ليتحسن البث من جديد.
في ذات صباح يأتي والفيروز تغني لها لترشف القهوة مع الجارات والصديقات . يأتي الصباح والصداع يشتد مع أم عائد والعطاس يشتد مع الشعور بالبرد والرعشات. تغيب أم عائد عن وعيها وتقوم الحاضرات بالصراخ
أم عائد
يا غالية
يا حبيبة
صراخ وصيحات ويزداد الجمع ليستدعي سيارة الاسعاف لتحملها إلى المستوصف القريب.
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الثلاثاء مايو 26, 2020 7:04 am

غربة 27

هل تنجح الأزمات وهل تنجح التكهنات أن تعيدان الحق إلى نصابه وأن تعيدان وطنا تمزق أشرعته الريح إلى أهله
أسفار ورحلات أم عائد ومثيلاتها قد طالت وعجلات النجاة مثقوبة من وهن أصاب ويصيب.
تقف أم عائد على الشرفات المطلة في صباحات يومها الصاخب وتتنفس النسائم الهائمة على بساط الترحال. تصيح تارة بالنيام
وتارة تحدو للحصادين الشاردة نظراتهم مع سنابل وجدهم المنحنية. تستذكر جدتها وأمها ووالدها الذي حمل معها أحقاب السفر وداست قدماه الأشواق وغاصت الكدمات ساقيه وجبينه وباقي الأجزاء من جسده. تعيد ذاكرتها مع أهل البلدة المطلة على بحرها عندما يهبون بمناجلهم ودوابهم في موسم الحصاد، هذا يحصد وهذا يرتب ويجمع القش ويصفه على ''القادم '' وهذا ينقل القش على القادم إلى ''الجرن'' والبيدر وهذا يدرس القش بواسطة الدواب وبالدسر. ما زالت تجمع صدى الماضي وأناس يهتفون وينشدون للفرح ويتبادلون السلام عندما يمرون على بعضهم في الطرقات والساحات.
ذكريات تتحنجل في النفس وكادت تصاب بالشيخوخة والنسيان. فمن يذكر بها ويعيد عجلاتها لتحيا من جديد.
يصيح الديك ويذكر بالصوت الملائكي وصفاء الروح المتقدة لتوقظ العيون لتنهض لاستقبال يومها الجديد. عائد على عهد الوفاق مع والدته فوجدانه معلق بالحبل السري الذي كان يغذيه جنينا ولم ينقطع بعد الولادة. اتصال روحي وعضوي يحتوي سيال الهوى وحب للإرث الذي لا تفنيه التحالفات والكيد الغائر في سويداء النفوس.
تقف أم عائد ولهى من الفكر الطروب وهذا المجد الذي يندثر ولا يندثر، فالقطرات الندية مشبعة بالحنان والسخاء. تكرم الفصول بربيعها وخضرتها وألوان زهرها وحبات الغرام.

تلتفت أم عائد يمينا وفي كل إتجاه ، صوب المآذن وأجراس الكنائس المهجرة لتجد لها فجا عميقا تجوب فيه قواربها حين هدأة العين في معين الأقدار.
يأتي ذكر الخبر اللعين وذاك الوباء الفتاك الذي أرهق كواهل البلدان ولم يجد له لقاحا فعالا. يستصرخون فلا يجدون من مجيب . يودعون الغاليين على أنفسهم كما يودعون أوطانهم التي خلت وكما يزفون للمجد أقدارهم المنكوبة. تطالع الأخبار والمستجدات لتجد لها تحليلا من سياسي مخضرم عهدته في البوح الصارخ من خلف الشاشات وعلى خشبة المسارح. يعد باقتراب الفرج والعودة لتلك التلة والحاكورة والخربة والدير والساقية والمحمية. هل يأتي ليعلن عن القضاء على وباء يخيف العجوز والطفل ، يخيف الظالم كما يخيف المظلوم، يعيد الناس إلى حظيرة المساواة والرجاء. اطلالات تجفى الوهن والخوف، تجفى المتربصين من أبناء الجلدة الذين ما زالوا يساومون على المقدرات والأوطان
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الجمعة أكتوبر 01, 2021 3:19 am

غربة 28
من ذاك الزمن يأتي مجلجلا يخفت تارة وتارت يمتزج مع صخب العزف الهمجي على الصناديق الخشبية المصمتة. يضرب المطرقة فيتصاعد دفق الهول بين الحضور
يقف عائدا أمام القاضي مستأذنا ببدء المرافعة، يلتفت من حوله فيرى العيون الملتهبة ووجوها أعياها شحوب الغروب.
من أين يبدأ والسكرات تتحشرج في الأعماق، يستدير بجسده ويهز برأسه، الظلام داكن بين سطور المرافعة والكلمات تطايرت حروفها.
الصرخات ما تزال تعبر الحدود وتجتاز المدى.
ما بال النوافذ مغلقة والأبواب لا تستجيب للطرق، الصدى ما زال يتردد والمحاكم تتشتت بالأفكار
يميني
علماني
متطرف
طائفي
تكفيري
مسميات ومصطلحات تعج بها الصحف ويتلفظ بها العامة والخاصة يفسرها المرء حسب هواه وتضيق بها المعاني والقواميس.
يحدث عائد نفسه وهمس أمه يتردد في ذاكرة الصدى
بني: هذه الأمانات حيرى بين ضلوعي لا أكاد أخفيها فتنكشف سطوتها عند عزف النسمات وتمايل أغصان السرو على قمم الجبال.
بأي حال تنكرونني وأنا من أملك الهوية وشهادة الميلاد؟. لي تاريخ وكوفية وثوب مطرز ومفتاح، ما زلت نبض قضية وفي بطني ولادة الأمجاد.
بأي حال تنكرونني وأنا من كانت تتراقص طربا مع الزقزقات ومع خرير الجداول وهديل اليمام؟
بني: أعيدوا لي المنجل المسلوب وسنبلة القمح الصفراء، أعيدوا الرصاصات المثلومة وبندقية زريف الطول وانشدوا وغنوا الروزنة لحنا للأجيال.
غرامي لا يتبدد فهناك الأجداث باقية وهناك الرفات لم يتحلل،
هناك الزيتون تجذر والصبر مازال يزين الحواكير والمرتفعات.
كيف يرافع والذهول يحيط به؟!
سجين خلف القضبان يلتاع من فجيعته
يتجدد القيد كلما هم بالشروع لتحطيم سطوة السجان.
يبادرون بالحياة لولادات مثل صباح يأتي بعد الظلام.
نصف ممتلئ ونصف بلا امتلاء
يحفرون بذات شوكة وسكين وملعقة ويغلفون الصبر تارة بالأمل وتارة بالجلد والاحتمال.
في الصيف يدق ناقوس الحر وفي الشتاء قارية البرد
يلهون مع الزمن ليلا ونهارا
يلهون وذات الشوق عهد وانفراد
يطرق القاضي ناقوس المحكمة ويتهيأ الجميع لسماع كلمة حق من فم رشيد عاقل
وما زالت لهفة تطارد الفكر وتسكن الذاكرة لتعيد الأمل إلى النصاب
تردد أم عائد مع النسمات وزغردات الدوري والحسان
اعيدينا للذكرى أمنيات
أعيدينا لنكون أجنة موصولة بالأرحام
أعيدينا للحقول وللبيارات والحواكير الغناء
أعيدينا لنرقص رقصة فرح وننشد مع الوطن تراتيل طير وحسان



محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الثلاثاء أكتوبر 04, 2022 10:28 am

بانت على جبين الصبر

بانت على جبين الصبر حكاية الموتى ، هذا جبينه معفر بلون حمرته وهذا جبينه مغبر من كد وتعب.
بانت ولا تدري مع أي اتجاه تسير
وقفت حيرى متسائلة: هل هي مسيرة أم مخيرة؟. سنوات وهي تعجز عن الاختيار الذي يعيدها لحضن بلدتها الدافئ.
ربما تأتي سيارة يوسف فيأخذون بضاعتهم المسجاة على مرمى بصر، يحملونها ويبيعون بأثمان القدر
صرخة تدوي من بين الركام ومن أنفاس متحشرجة
أنا هنا
أنا باق
في عروقي شمس تستعر بها أوصالي ، باق مع الموت أنا وآهتي اليتيمة
في كل اتجاه تتسابق النظرات لتحظى بالفوز ولتبلغ سدرة المبتغى.
أيتها العجوز أخبريني عن ذكريات الصبا وقد كنت فيك جنينا من الحبل السري أرد حياة الرجا، اكشفي عن ظاهر كف طمست معالمه هبات ريح ممزوجة بكد النوى.
في دروبك يستقيم نهجي فأصلي خمسا ومن النافلة أتبعها شفعا ووترا، ألثم بفيه ينطقني كأس صبابتي من ثرى وطن مفتون بأحباب في غربتهم يحملون معولا وعصا.
أم عائد أما حانت عودة الريح للمصبات لتثير العجاج وتهدي نبوءة الصدى، لك مع العهد آيات مطرزة على ثوب الزمن، كوفية رقطاء ومفتاح معلق على مشجب الجسد.
في أي أتجاه نسير والجدر ما زالت متكدسة والنظرات مثقوبة. يفتينا بهلول وزرياب يرقص مع غنوته المفضلة. مع الغربة نحصي الدمعات الثكلى لأم الورد وحاضنة الجنين تسعا على قيد الفدا.
أم عائد ما زالت تجهز نفسها والذوائب بيضاء مسترسلة ، تكشف عن الرأس أمام الجمع فقد أصبحوا أبناء وحفدة، ليس منهم من ينقض الوضوء ، فيكفي أن ظاهرهم يكفهر بعين الشفقة.

بانت وما كادت تبين،، تقترب وتبتعد
حرب موت تلقي بظلالها هناك وما زلنا ننتظر الجحافل بزي الفارس الذي يحمل على النفس ويصيح ها أنا أقاتل.
غدا يأتي عائد فطالت سفرته فشوق القلب مغموس بطيف الهواجس.
ما زالوا يعقدون العزم ويخرجون في صباحهم الباكر ويصعدون التلة المشرفة على بلدتهم التي ما زالت تنادي الحلم في غفوة الأعين.
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الثلاثاء سبتمبر 12, 2023 3:08 am

غربة 30

يجتمعون في الحارات وفي الزقاق خلف الجدران وفوق السلاسل الحجرية، يجتمعون فيتفقون ويختلفون وترتفع الأصوات حينا وحينا تنخفض.
يتبارزون بكيل التهم لبعض
عميل
فاسد
بائع لوطنه
يتبادلون التهم ليصبح رفيق الأمس خصم اليوم ويختلط فاسدهم بالشريف
يجمع كل طرف غله المكنون في صدره ويطلق ما يستطيع من سهام الفتك في صدر الٱخر
أم عائد لم تزل تحافظ على عهدها وعائد يرافع في المحاكم ليستطيع تحصيل ما أمكن من الحقوق المغتصبة
يصيح هذا ويصبح ذاك
كان جدي يقاوم
كان عمي يقاوم
كان أبي يقاوم
ويصبح الشاب
كنت ألقي الحجارة وأعمل المتاريس
الكل يصيح يحيا ذاك المجد الذي مضى وما زال بعضهم يلقي سهامه الغجرية في صدر الأشقاء
تتساءل أم عائد وتصبح يا ويلتاه
لماذا يتشاجرون
ولماذا يعيق السلبي طاقة الإيجابي
تصيح أم عائد
لماذا انحرفت البوصلات عن اتجاهاتها الأربع
فرأسها مدبب وفي عادته يعشق الدوران
تدور الأرض بغير اتجاه كما يرونها وهي تشرق عليهم بصباح وتغرب بمساء
تقرأ ٱية وتتمعن في معنى ٱية أخرى
وفي كل حرف يتبادر لذهنها هل نغير أم نبقى يضرب بعضنا رقاب بعض
وتعيد قاموس ذكريات الحب عندما غادرت قسرا بلدتها والناس يصطفون طوابيرا بين مودع وبين مصافح وبين من يدعو إلى التئام الجراح

يأتي من بعيد صوت صراخ مات مقتولا أبو عماد
أربعيني من عمره عرف عنه حب وطنه ودينه
يصلي صلواته ويحسن في قوله
قتل ولا يعلم الناس من قتله
قتله المعتدي أم أعوانه المأجورين
الصيحات والصراخ من كل جانب
شهيد شهيد
في البلدة شهيد
أبو عماد شهيد
من قتله
البعض يقول رصاصات صديق من أهله
أو بعض معارفه
والبعض يقول رصاصات عدو أو متغطرس من الحي
أم عائد مذهولة
اللعنة اللعنة
يموت الشباب والصبيان والأسباب ضد مجهول ينسبونها
بعض الصبية يهمسون
قتل أبو عماد وهو ينظر على أطلال بيت جده
وبعضهم يهمس قتل لأنه رفض العودة
وبين ذا وذاك دمعات النسوة تزداد تصببا وتحفر أخاديدا كعادتها تحت الجفون
والنحيب من حناجر بكماء
من نبكي
ومن نرثي
ومن. ...ومن؟
أم عائد يا ويلتاه لماذا اصبح وطننا ذكره نكرة وصلاتنا فيه وله منكرة
لماذا من يصلي الصلوات مغتصب لذاتنا وارهابي
ومرتزق ومن يقتل ويأسر صديق حميم
في كل لحظة يقين وفي كل حلم استفاقة ضمير
وعائد الابن البار بأمه يحضر لها كأس ماء وراية مكتوب عليها كلك يا وطن
تستفيق من غفوة. لتجد نفسها تفتح المذياع وتجدد القنوات الفضائية لتجد لنفسها قناة تخبرها عن العودة إلى وطن المصير
عائد يستنهض نفسه ويوقظ إخوته وزوجته ليجد معهم خبرا وموعظة أو يجد حكمة تقول عودوا أحياء أو أمواتا
أو يجد قولا لو باعوا جميعا لا تبيع
لو غفلوا جميعا لا تغفل
لا تجعل الغفلة تستوطن
رغم الغربة والاغتراب. الناس تلعب بعقولهم الناس المأجورة
يحرضون وينشرون مفاسدهم
وبين قتيل وقتيل انسان فقد يده
او عينه
أو فقد شيئا غاليا على قلبه
بين قتيل وقتيل لحظة سبات وغفوة للضمير
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الأحد أكتوبر 15, 2023 1:53 am

غربة ٣١
أم عائد ترفع أكفها في كل صلاة وفي كل دعاء،
ترفع أكفها في كل مناسبة دينية أو اجتماعية وهي تحث من حولها أن يرددوا الدعاء الذي يحمل في ثناياه مشاعل العودة والحنين.
آه يا دار أبي ودار عمي ويا دور أهلي،
يا دالية أهلي وحاكورة التين والرمان.
طال الانتظار وهذا المذياع يصمت وينطق ولم يأت بأي خبر سار.
هل أهجر المذياع وألتفت إلى ما يحمل الصبية والشباب من أجهزة محمولة باليد ؟
هذا يسمع أغانيه المفضلة
وهذا يتراقص مع موسيقاه وهذا يلعب بالأزرار البارزة والمفاتيح.
أم عائد تصيح بالأحفاد
دوشتوني دخيلكم
دوشتوا صبري وأرهقتم تحملي
أم عائد هي الأم الستينية والخمسينية
والأربعينية، هي كل الأعمار تثير في نفوس الصبية الدهشة.
الزمن لم ينل منها فما زالت هي الحاضرة في كل الأمكنة والأزمنة وفي كل المناسبات الاجتماعية.
يصيح الحفيد سامر ابن عائد
جدتي!
جدتي!
ترد أم عائد ما بك؟
ماذا حصل؟
يتنهد سامر ويقول:
خذي الموبايل يا جدتي
اسمعي الجزيرة
اسمعي الأخبار
ترد أم عائد: روح يا ولد أنا مش ناقصاك
فينا ما يكفينا
سامر : اسمعي يا جدة فقط
ترد أم عائد والحيرة تملأ العيون:
ما زالت الشمس لم ترتفع في السماء ومعظم الناس نيام،
خوفتني يا سامر،
هل حصل مع أبيك شيئا،؟
هل حصل لأعمامك شيئا،؟
هل حصل مع الجيران شيئا،؟
سامر يضحك بعلو صوته ويقول:
افرحي يا جدة،
افرحي،
ترد أم عائد وهي منفعلة:
والله إذا ما انصرفت لأضربك وأخبر أباك،
روح يا ولد من قدام عيوني
ما زال سامر والبسمة تملأ وجهه
يا جدة دخلوا!
يا جدة رجعوا!
يا جدة تعالي شوفي شو صار!

ترد أم عائد وبيدها عصا المكنسة:
تعال يا كلب،
انت اليوم شو صاير لك،
ناوي تعملني قرقوز،
روح شوف لك حاجة غيري،
يرد سامر: يا جدة والله دخلوا،
شوفي السيارات،
شوفي الدراجات،
شوفي معهم شو حاملين،
ترد أم عائد : يا سامر أنا ذاهبه لأبيك حتى يشوف لك صرفه،
وجعت لي رأسي
يبتسم سامر،
يضحك،
يرقص،
يغني،
يا جدة رجعوا،
يا جدة دخلوا،
يا جدة والله شيء يرفع الراس.

أم عائد في حيرة
ماذا يقول سامر؟
لم أعتد منه المشاكسة،
ولم أعتد منه مخالفة أمري،
يا ولد يا سامر: هات لي المذياع بدي أسمع فيروز،
بدي أسمع أغنية فيروز
//الآن الآن وليس غدا
أجراس العودة فلتقرع//
تفتح أم عائد المذياع
صمت يظهر فجأة!
يشحب لون وجهها،
لا تستطيع قول شيء ، تصمت ثم تقوم من صدمتها
تنادي بأعلى صوت
سامر!
سامر!
متى يا سامر؟
قول يا سامر
يا الله!
با الله!
يا سامر اضربني،
يا سامر رش على وجهي الماء،
يا سامر أين أنا؟
في علم،
في حلم،
يا الله!
ما هذا؟
يا الله!
هل أعود؟
هل أعود؟
يا سامر أخبرني:
هل أعود؟
هل نعود؟
يا سامر هات الموبايل، فرجيني شو شايف،
فرجيني،
خلي قلبي يفرح،
خلي الأمل يحيا في قلبي
يا سامر
سامحني يا سامر،
ظلمتك يا سامر.

أيام تمر وأيام وأم عائد لم تستفق من هول المفاجأة.
هل يعقل أن يتمكن أفراد ببساطة أدواتهم تحطيم الجدران وإزالة الأسلاك المكهربة والشائكة؟
هل يمكن تخيل ما يحملون من غنائم وما يحتجزون من المغتصبين من رهائن؟
هل أنا في حقيقة أم خيال؟
هل أمامي فلم هندي أو أمريكي يصور خارج نطاق الأرض في الفضاء؟.

تغفو وتستفيق أم عائد وهي بين مزيج من الفرح والذهول، تنتقل بين المحطات الإخبارية والمحللين
وما زالت اليدان مرفوعتين بالدعاء إلى السماء
يا رب ثبت الصابرين وانصرهم على المغتصبين


عدل سابقا من قبل محمود قباجة في الأحد نوفمبر 12, 2023 4:21 pm عدل 1 مرات
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الأحد نوفمبر 12, 2023 4:20 pm

غربة ٣٢

أم عائد مذهولة من المفاجأة ويشاطرها كل عربي وكل حر ذهول الفرح والمبادرة
خطوة غير مسبوقة في تاريخ ام عائد التي هجرت موجوعة القلب والشعور.
كل يوم يمر عليها كألف عام.
يا الله!
عشرات السنين والجميع يتلقى الصدمات والضربات ولا يصدر إلا الآهات،
آلاف الشهداء وآلاف الأسر المهجرة ولا نسمع صوتا يدعمنا سوى الشجب في القمم، والاستنكار على الشاشات
يا الله!
ما أكرمك!
هل ولدت من جديد؟
هل أنا في حلم يراود الخيال؟
بقيت ام عائد تحاكي نفسها، وتنتقل من بيت إلى بيت.
كل الأحاديث تتكلم عن هول المفاجئة
كيف دخلوا؟
وكيف استطاعوا التغلب على المغتصبين للأرض والبلدات والممتلكات؟
أم عائد التي هجرت ديرتها قسرا ما زال حلمها ماثلا أمام عينيها، وها بدأ يقترب منها شيئا فشيئا.
الذهول يحاصر الوجدان، والأمل بات يلوح برايات العودة والانتصار
النصر خطوات
هكذا قالت أم عائد
وها الخطوة الأولى تحققت
ساعات ودقائق والجميع في ذهول ينتظر،
والسؤال حاضر:
هل يرضى المغتصب بهزيمته ويرضى بالنتائج؟
هل ترضى التجمعات المناصرة للظلم يهزيمة الظلم وأن يتعرى أمام الحقيقة؟

ما زالت المفاجآت تتوالى، والأخبار تتناقل بين الناس، وبين شاشات التلفزة
المذياع حزين
الناس تهجره إلا ام عائد التي عقدت معه قرانا ألا تفارقه، تستهل به مع اغاني العودة لفيروز
وتقفل يومها به على أنغام ام كلثوم

الاعلاميون، وصناع الخبر، والمؤثرون، والمحللون، والعامة، والخاصة كل أصبح محللا، واصبح صانع محتوى. حتى الطفل أصبح يناقش في مجريات الحدث وما ينتظره غدا.
الأحداث تتوالى والمغتصب لا يقبل بالهزيمة بروح رياضية. هناك من ينصره على الظلم واغتصاب حقوق الآخرين، من غرب ومن شرق وحتى من المهزومين نفسيا.
صيحات الظلم تتوالى من أماكن قريبة، ومن أماكن بعيدة. هاجس الانتقام موجود في العقلية والطباع لهم. يجتمعون في تدمير البنيات التحية وقتل الناس وتدمير الممتلكات.
ساعات واحداث الانتقام تبدأ. أسراب الطائرات في سمائها تحلق، وقاذفات الحمم الملتهبة تصوب بإتجاه المواطنين، والسفن الحربية تتأهب لتنال هي الأخرى فرصتها في احداث الدمار.
فرحة ام عائد كعادتها لم تكتمل.
كانت فرحة الأمل واقتراب العودة على الأبواب والنوافذ مع الشمس تشرق،. وها الألم يتجدد.
قصف همجي بكل أنواع الأسلحة والمتفجرات التي تنهمر من عيون لا ترى في غفلة الأسماع الصماء.
يا لهول الجرائم!
أشلاء الأطفال متناثرة وأجساد الأمهات ملقاة على الطرقات والشيوخ يعجزون عن تقديم المساعدة لأحفادهم وابنائهم.
هذه تصرخ،
وهذه تظن أن هناك معتصما أو صلاح الدين أو عمرا
يا للهول!
البيوت تقصف على ساكنيها والأشجار تخلع من كل مكان.
لا مدارس
لا مساجد
لا كنايس
لا مراكز للعلاج
لا مأوى للمشردين
فكل المتطلبات مفقودة حتى النفس مفقود
لا ماء
لا طعام
لا دواء
لا ملابس
لا اتصال ولا تواصل

يا للهمجية والعيون العمياء!
وئدت الانسانية في القلوب وتحجرت النظرات
عائد الذي درس القانون وكل أمله ان يكون قادرا على الدفاع وصياغة البيانات التي تدين الجرائم التي يرتكبها الطامعون والمغتصبون
عائد كعادته الولد البار بأمه وانسانيته وقضيته
يسهر ليله ويداوم نهاره وهو في حراك وتواصل مع زملائه في العمل وداعمين الحريات والحقوق لخلق واجهة قانونية تساند الإنسان الذي يقاوم على ارضه بكل ما هو متاح
بالبندقية
بالعلم
بالكلمة
بالتوجيه
والارشاد

أم عائد لم تقف صامتة، فهي صاحبة الحنجرة الظاهرة، وصاحبة الإرادة التي لا تموت.
تستنهض اهل العزم ممن يسمعون النداء ويلبون الصيحات.
تنظم المسيرات، وتوحد البوصلات، لتكون الناطق بلسان الملايين الذين يرفضون الظلم وسرقة حقوق الأوطان

محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الخميس مارس 07, 2024 9:01 am

غربة 33

يشتد الحصار ويزداد التنكيل بأهل البلدة والبلدات المجاورة
فالطائرات تقصف كل جسم يتحرك والزوارق تقصف كل جسم يحاول الاقتراب من البحر
والمدافع والدبابات ڤه‍ي لا تدع معلما على سطح الأرض دون أن تحدث فيه تدميرا سواء كاملا أو جزئيا.
أم عائد كغيرها من الناس تنظر إلى المشاهد من على شاشات التلفزة أو تسمع بعض القصص من الأخبار الواردة من هنا وهناك.
الأمر يزداد شدة وقساوة فالنساء ضحايا والشيوخ ضحايا والأطفال يتناثرون أشلاء ممزقة.
حتى بيوت العبادة من مساجد ومن كنائس لم تسلم من همجية العدوان.
تتساءل أم عائد وكعادتها ودموعها تنهمر بغزارة على وجنتيها من هول الفواجع والعيون غرقت بدمعها حزنا وألما.
تسأل عن الذنب الذي قد ارتكبه أطفال الخداج الذين قذفتهم الأرحام من هول المصاب وشدة القصف والخوف.
تسأل والاسئلة تتوالى.
تسأل عن المستشفيات وعن المدارس وأماكن ايواء المشردين
بأي ذنب يستهدف الجاني الجميع وينكل بهم؟
أم عائد أصبحت في صراع مع النفس فهي تقف وتترقب من بعد ومن كل الاتجاهات لعلها تجد من يسعفها ويمسك بيدها ويد من فقد عزيزا أو وطنا.
عين تنظر إلى المكلومين والمشردين وعين تنظر إلى من يحمل سلاحه ليقاوم العدو الغاشم.
عيون ام عائد يقظة كالعادة وأذنها لا تفارق صوت المذياع، في كل لحظة تنتظر خبرا  ما بين مؤلم ومفرح.
تأتي الأخبار والأنباء تأتي تباعا.
ويزداد الألم عندما تأتي أخبار الحصار حول البلدات التي لم تتمكن من ادخال مقومات الحياة لتسد بها حاجة النساء والشيوخ والأطفال
لا ماء
لا دواء
لا كهرباء
لا غذاء
شعب يقهر بالحرمان
يقهر بالخذلان
شعب في سجن مغلق
يأتيه الموت والجوع من كل مكان
حصار يفوق الوصف
فقد يعجز الصديق مد يد العون أو ادخال بعض ما يسد الحاجة والرمق.
أم عائد تستنهض نفسها وتستنهض كل من تراه من حولها
تصيح
تصرخ
تندب نفسها
وتندب من فيه بعض كبرياء وفيه بعض نخوة وشهامة
هل من مغيث؟
هل من مسعف؟
هل من يضمد جراحات المكلومين؟
هل ...وهل!
وكل سؤال ينتظر جوابا.
الأخبار تتوالى والمجازر تتكرر، الجميع يلهث من العطش وينتظر لقمة تسد فجوة من فجوات الجوع.
مجاعة تسود البلدات والجياع تصيح وتصرخ
ولا حياة لمن تنادي.
ڤي ذات صلاح جاءت البشرى والجميع ينتظر الفرج
أخبار عن معونات تأتي من الجو في حين البر معطل ولا يجرؤ أحد من ادخال المساعدة من البر
تأتي المساعدات من الجو وتنزل في المظلات
فبعضها يسعفها الحظ بالوصول إلى المنكوبين من الأهالي، وبعضها لا يحالفه الحظ وينزل في البحر تلتقطه الأسماك الجائعة.
لم تنتهي المأساة  فهناك من غلبه الجوع وهرولت به المنية ليزاحم الآلاف ليحصل على بعض من قوته
والبعض قد يفشل من الحصول بسبب التدافع.
العدو ما زال يجثو بغيظه ويستعد للقنص لكل من هب ودب.
وتستمر المعاناة والقتل والتشريد مستمر
وتتساءل أم عائد
هل الناس إلى تهجير جديد؟
وإلى اين الوجهة الجديدة؟
ام عايد تبقى مع الأمل وتنتظر كل صباح خبرا جديدا
يعيد لها بوصلة الطريق لتعود من حيث خرجت مع والدها العجوز الذي حملت معه مآسي الغربة وما تزال تنتظر.
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الغربة والعودة Empty رد: بين الغربة والعودة

مُساهمة من طرف محمود قباجة الثلاثاء مارس 26, 2024 3:25 am

غربة 34

وقفة مع دولاب الزمن وعودة للغربة من جديد. نازح الأمس في ملجأ المخيم يعاني الحصار وقطعت من أمامه السبل. أصبح طريدا للقهر والمعاناة .
تدور عجلات الزمن ويعود النزوح من جديد وبحلة مظلمة.
القصف مستمر من الجو ومن البحر ومن البر والناس يعانون الموت والتجويع.
يخرجون جماعات وافرادا ليتجمعون في خيمات اللجوء من جديد. خيمات أعدت لهم على انقاض الماضي وانقاض الحاضر. يخرجون من الشمال الغزي ويتجهون جنوبا عسى الأمكنة تسعفهم وعسى المقام يكون آمنا.
بلا ماء وبلا كهرباء وبلا طعام.
مكان للموت الروحي ولقتل الاحساس وللإذلال. الظلمة ترهب الأطفال دون دفء ودون حليب، والمرضعات تعجز عن انتاج الحليب لسوء التغذية ونقص الطعام.
الوهن نال من الأجساد والشيوخ لا يقوون على صراع الأزمات، وأصحاب الامراض المزمنة يموتون بسبب عدم توفر الدواء.
ماجدة تلك الأم الاربعينية تبذل جهدها لتقاوم الموت ولتبقى على قيد الحياة.
تجتهد بكل ما لديها من قوة ومن سعي لتوفير اليسير من الطعام لأطفالها وهي بذلك تتحدى كل مراسيم الموت التي يخططون لها. العالم يجتمع ويؤازر الظلم لإبادة شعب أعزل جرمه في نظرهم أنه يقول أننا ما زلنا أحياء وأن الأرض والبحر مصدر رزقنا والغيمات في السماء لنا مطرها.
خيمات تفتقد للحياة وما يدخلها من مساعدات يتم تفريغها من مضمونها بهدف الإذلال المبرمج بحيث لا يصل المستحقين. وإذا وصل يكون فاسدا منتهي الصلاحية.
ماجدة وغيرها الكثير من النسوة والرجال والأطفال يربطون على بطونهم ويكممون الأفواه حتى لا تصرخ من ألم الجوع وقرقعة الأمعاء. الجرح يتعمق والنزف يتدفق من الحشا ومن كل شبر على ظاهر الأجساد.
يا للهول ويا للمفاجآت!
الخيمة يجتمع فيها عدد من الأسر يعرفون بعضهم ولا يعرفون. يجمعهم سبيل واحد يعيدهم إلى بلداتهم التي خرجوا منها قسرا بسبب الحرب الهمجية.
الحسرة لم تفارق منهم أحدا، يتقاسمون القليل وينظمون الوقت والمكان ما استطاعوا
جزء من الوقت في الخيمة للنساء وجزء من الوقت للرجال، فالراحة خارج التغطية والطمأنينة تحتاج قرارا من الأمم.
يجتمعون وأعينهم تترقب خبرا يعيدهم مظفرين
وحاملين قضيتهم للعالم أجمع تحت مظلة النصر المؤزر للحق المبين.
أم عائد ما زالت على أطلال الغربة تستهجن ما حصل لها وما يحصل لأهل غزة أمام الصمت الذي يصبح مرعبا.
أم عائد كعادتها في ملازمة المذياع واخبار تتناقلها الفضائيات.
تتساءل ام عائد عن اخبار ما يسمى المساعدات
لماذا لم تصل وإن وصلت لماذا تصل متأخرة؟
تتساءل وكعادتها
هل ما زال العالم أصم وابكم؟
محمود قباجة
محمود قباجة
مديـــــــر عـــــــــــام
مديـــــــر عـــــــــــام

عدد المساهمات : 2307
نقاط : 8428
الاصوات : 29
تاريخ التسجيل : 17/06/2014
العمر : 54
الموقع : فلسطين

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى